Site icon bnlibya

إشكالية تنازع الاختصاصات

لعل من أهم وأخطر الإشكاليات التي تبرز على السطح عند وجود فراغ إداري أو السياسي في أي دولة هي إشكالية تنازع الاختصاصات بين مراكز القوى وصُناع القرار! والمقصود بتنازع الاختصاصات هو “تداخل وتشابك المهام والمسئوليات بين مؤسسات الدولة ومحاولة كل مؤسسة انتزاع ما تعتقد انه من حقها والهروب من مسؤولياتها”.

والحديث على الاختصاصات يعني الحديث عن جوهر الإدارة وآليات اتخاذ القرار، وأن تحديدها وتعريفها التعريف الواضح والدقيق يقود إلى: (1) تحديد من هو متخذ القرار، (2) عدم استطاعة مُتخد القرار التهرب من مسؤولياته، (3) إمكانية مساءلة ومحاسبة المخالفين ومحاربة الفساد، و(4) ضمان نجاح المؤسسة وتسهيل مهامها المستقبلية.

أنواع الاختصاصات

يمكن القول إن الاختصاصات هي المحرك الرئيس لأي قرار في مؤسسات الدولة، وهذا يتطلب من كل مؤسسة تعريف وتحديد نوع المهام المطلوب إنجازها واتخاذ القرارات تبعاً لكل مستوى وظيفي من مستوياتها.

ومن هذا الفهم يمكن تقسيم الاختصاصات إلى خمس أنواع رئيسية هي:

أولا: الحصرية

وهي الاختصاصات التي يُحددها دستور أو قانون دولة ما. وهذا يعني حصر وتحديد وتعريف وتوزيع المهام التي يجب أن يقوم بها كل مستوى من مستويات نظام الحكم السياسي.

ثانيا: المُقيدة (أو المشروطة)

يقصد بهذه الاختصاصات أنَّ المسؤول يكون ملزما بما يضعه له القانون من شروط وضوابط لاتخاذ قرار معين او القيام بعمل ما، وفي هذا الوضع لا يمتلك المسؤول إلاَّ صلاحية التثبت من توفر هذه الشروط والضوابط وتنفيدها. بمعنى آخر، أن القانون يفرض على المسؤول آليات وأساليب محددة لاتخاذ قراراته، ولا يترك له حرية التقدير، ويشترط عليه استيفاء الشروط التي نص عليها القانون، وأحيانا لا يكون للمسؤول الحرية في الامتناع عن اتخاذ القرار أو اتخاذ قرار آخر.

ثالثا: المشتركة

وهي الاختصاصات المتاحة لكل الجهات او المستويات الحكومية المختلفة في الدولة. وهذا النوع من الاختصاصات يوجد بكثرة في الانظمة الامركزية للحكم وخصوصا الانظمة الاتحادية. فعلي سبيل المثال, تجد الحكومة المركزية لها حق فرض الضرائب, وفي نفس الوقت, يعطي الدستور نفس الحق للحكومات الاقليمية والمحلية, ومن جهة أخرى، ينص دستور العديد من الدول على أن تكون السلطات المتعلقة باعتماد الميزانية أو إعلان الحرب مشتركة بين السلطتين التنفيدية والتشريعية.

رابعا: التقديرية

بمعنى إلى جانب الاختصاصات الحصرية والمقيدة والمشتركة للسلطات هناك اختصاصات تقديرية أيضا، إذ لا تخلو أغلب القرارات في إصدارها من عنصر التقدير. وفي هذه المهام  يُعطي للمسؤولين حرية اتخاذ اجراءات قانونية في الأحوال التي لا يفرض عليهم النظام قيود مُسبقة, بشرط أن يكون للسلطات الرقابية والقضائية حق المراقبة والمساءلة القانونية لهذه القرارات والتصرفات الصادرة عن المسؤولين. وبمعني أخر, ان المهام التقديرية هي سلطات تُترك للمسؤولين خلال تنفيد اعمالهم, وتسمح لهم باتخاذ أية إجراءات اخري يرونها مناسبة بشرط الا تتعارض مع النص الصريح للقانون, وهي مهام يتمتع بها المسؤولين في حال غياب نص قانوني واضح وصريح يعالج قضية ما، سواءً في الظروف الاعتيادية أو الاستثنائية.

وهنا يجب التذكير بان الإدارة, من حيت المبدا, لا معنى لها دون وجود مهام تقديرية، الا       ان الخطورة في غياب النص القانوني للحالات المستجدة والطارئة قد يُتيح فرص للمصالح الشخصية على حساب المصلح العامة, وعليه فلابد ان تكون المهام التقديرية خاضعة دائما للشفافية والرقابة والمحاسبة.

الخامسة: الممنوعة (أو المحظورة)

وهي الاختصاصات التي يُمنع على المؤسسات او المسؤولين مزاولتها. وعليه فلابد ان يحصر ويُعرف الدستور او القوانين الاساسية للدولة هذه المهام التي يُمنع القيام بها. فعلي سبيل المثال, تمنع, دساتير الدول الحديثة, السلطات المحلية والاقليمية من تاسيس جيوش او قوات مسلحة, لان ذلك من الاختصاصات الحصرية للسلطات المركزية, ولا يجوز لأي وحدة محلية أن تعقد أية معاهدة، أو أن تدخل في أي حلف أو اتحاد أو شراكة، مع أي دولة أخرى إلا وفق ما تنص عليه قوانين الدولة, ولا يجوز ايضا لأي وحدة محلية أن تصك عُملة أو تصدر سندات حكومية، أو تعتمد أي أوراق نقدية خلاف العملة المعتمدة من الدولة.

مبادئ إدارية

في اعتقادي لكي يتم حصر وتعريف وتحديد الاختصاصات المطلوبة لمؤسسات الدولة وتوزيعها التوزيع المناسب وبالاسلوب العلمي, لابد أن تنطلق هذه الاختصاصات من مجموعة مبادئ إدارية اساسية ومطلوبة لعل من أهمها:

1. مبدأ تقسيم العمل 

بمعني لابد من تجميع الوظائف والمهام المتشابة والمرتبطة مع بعضها البعض علي اسس المعرفة والتخصص والكفاءة والمقدرة.

2. مبدأ وحدة القيادة 

بمعني لابد أن يكون لكل مسؤول رئيس واحد يتلقى منه الأوامر والتوجيهات, ويرفع له التقارير والاقترحات, ويكون هو المشرف الوحيد على أعماله. ولكي يتحقق هذا مبدأ, لا يجوز السماح بتجاوز صلاحيات المسؤول الأعلى من قبل الأدنى, لان ذلك يُسبب خلل خطير في النظام المؤسسي، ويُولّد الفوضى والارباك، ويقود الي التصادم والمشاحنات بين المسؤولين.

3. مبدأ السلطة والمسؤولية

بمعني لابد ان يدرك كل المسؤولين في الدولة الارتباط الضروري والوثيق بين السلطة والمسؤولية, وهذا يعني ان ممارسة المهام يقترن دائماً بتحمّل المسؤولية, وإن عدم اقتران ممارسة المهام بتحمّل المسؤولية يقود الي صعوبة تحديد من هو المُقصّر والمُخطي بشكل واضح عند ظهور فشل أو خلل ما في مراحل العمل التي تظهر فيها اشكالية تنازع الاختصاصات.

4. مبدأ الفصل بين المهام

هذا يعني, في المجال السياسي, من جهة الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيدية والقضائية, ومن جهة أخري الفصل بين السلطات المركزية والسلطات المحلية. ويعني في شركات الاعمال الكبري, الفصل بين الرئيس التنفيدي والرئيس الاداري للعمليات, بحيث يصبح   لكل سلطة من هذه السلطات المسؤولية الكاملة عن جزء من عملها ويتم منحها كل الاختصاصات اللازمة للقيام بالعمل الذي طُلب منها.

5. مبدأ الرقابة والتوازن

لكي يتم تطبيق مبدأ الفصل بين المهام علي اكمل وجه, لابد ان يرافقه مبدأ “الرقابة والتوازن،” بمعني ان يتم توزيع الاختصاصات, في النظام السياسي, بين السلطات الثلاثة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) على نحو لا يسمح لأي منها, من جهة بالانفراد بصنع القرارات, ومن  جهة آخري, الا تكون العلاقة بينهم على اساس الفصل الكامل بينها, وإنما هي علاقة مؤسساتية متمايزة وتتقاسم فيما بينها مهام مشتركة علي اسس التخصص والتكامل والمسئولية.

6. مبدأ الوظائف لا الاشخاص

بمعني ان يقوم التنظيم الإداري في مؤسسات الدولة على أساس الوظائف وليس الأشخاص  الذين يؤدون هذه الوظائف. فالمسؤول يقوم بممارسة اعماله التي مُنحت له بسبب وظيفته,  وذلك لان توزيع الاختصاصات حتما سيفشل اذا تم ارتباطه بالاشخاص وليس بالخطط والبرامج والمشاريع. وعليه فعلي المسؤولين ان يعوا بإن احد الاسباب الرئيسية لتنازع الاختصاصات حول العديد من القضايا الادارية والتنموية هو ارتباط هذه الاختصاصات بمصالح الافراد الذين يقودون مؤسسات الدولة ويتصرفون وكأنهم هم المؤسسة.

7. مبدأ الشفافية

بمعني الالتزام بالانفتاح والمصداقية عند تواصل المسؤولين مع الآخرين حول الأمور والقضايا المتعلقة باعمالهم, واستعدادهم للمساءلة والمحاسبة. ان ممارسة هذا المبدأ يقود إلى زيادة ثقة المواطنين في مسؤوليهم, واظهارهم بان ليس لديهم ما يخفوه, وانهم قادرون علي القيام بمهامهم. وعليه لكي يكون المسؤول شفافا لابد ان يتحدث بصدق ووضوح وأن يشرح ما   يشعر به وما يفكر فيه باساليب بسيطة واضحة.

الخلاصة

مما ذكرته اعلاه, يمكن القول, انه من الضروري حصر وتعريف وتحديد اختصاصات كل مؤسسة من مؤسسات الدولة لكي يتم تفادى التنازع والتضارب والازدواجية فى المهام. وذلك لان تنازع الاختصاصات يقود دائما الي صراعات طاحنه, والي أثار سلبيه, والي سهولة التهرب من المسؤولية, ويُؤدي إلى الفوضى, ويشير الي وجود خلل جوهري في تنظيم وتوزيع الأدوار بين المسؤولين في الدولة. وان استمرار هذه الاشكالية سيقود حتما الي فشل العمل المؤسسي وانهيار ركائز الدولة كما هو الوضع السائد هذه الايام فيما يُعرف بدول الربيع العربي, وخصوصا في بلدي ليبيا للإسف الشديد. وعليه,  فعلي كل النخب التي ترغب في تأسيس دولة مدنية ديمقراطية حقيقية, ان تُدرك بان الحل الاساسي والضروري لهذه الاشكالية هو الاهتمام بصياغة نصوص دستورية, صياغة تُعرف وتوزع وتُحدد هذه الاختصاصات بشكل بسيط وواضح لا يحتمل التأويل ولا التفسير, وقبل كل هذا, لابد ان تنطلق هذه الاختصاصات من المبادي الاساسية للادارة العلمية وخصوصا السبع  التي ذكرتها اعلاه.   وفي الختام, يبقي السؤال: هل ادركت النخب التي تتصدر المشهد السياسي هذه الايام, وبعد عشر سنوات عجاف سادت فيها الفوضي والمحاصصة والطمع والجشع, هذا الدرس المؤلم, وهل هي علي استعداد الان لإصلاح ما يمكن إصلاحه؟!… ادعو الله ان يكون كذلك.

أخيرا لا تنسوا, يا احباب، ان هذا مجرد راي اعتقد انه صواب، فمن أتي براي أحسن منه قبلناه،  ومن أتى برأي يختلف عنه احترمناه.

The post إشكالية تنازع الاختصاصات appeared first on عين ليبيا | آخر أخبار ليبيا.