رغم تعدد الأزمات التي تعصف بليبيا منذ سنوات – من الانقسام السياسي إلى الجمود الاقتصادي – يلوح في الأفق ملف حيوي يمس كل بيت ليبي دون استثناء: الأمن الغذائي.
هو أزمة صامتة تهدد صحة الإنسان الليبي واستقرار المجتمع، لكنها في الوقت نفسه قد تشكل قاسمًا مشتركًا يجمع الليبيين حول أولوية وطنية بعيدة عن التجاذبات السياسية.
فهل يعي الجميع خطورة استمرار إهمال هذا الملف؟ وهل يمكن أن يتحول الاهتمام بالأمن الغذائي إلى مدخل لبناء مشروع وطني جديد يُعلي مصلحة المواطن فوق كل اعتبار؟
أزمة تتجاوز السياسة والاقتصاد إلى صحة الإنسان
في خضم سنوات من الصراع والانقسام، تراجع الاهتمام بملف الأمن الغذائي رغم مساسه المباشر بصحة المواطن الليبي. أغلب الأغذية التي نستهلكها – من خضروات وفواكه ولحوم ودواجن – تعتمد على الاستيراد في ظل شبه غياب لصناعات تحويلية محلية.
هذا الواقع لا يُثقل فقط كاهل الاقتصاد الوطني، بل يضاعف الضغوط على قطاع صحي يعاني أصلًا من أزمات مزمنة، خاصة في مواجهة أمراض خطيرة مثل الأورام، التي تحولت إلى أزمة وطنية بحد ذاتها.
كيف يُغذّي الانقسام السياسي أزمة الغذاء؟
الانقسام السياسي لم يفرز فقط مؤسسات مزدوجة وقرارات متناقضة، بل أضعف أيضًا القطاعات الحيوية: الزراعة، الرقابة، والصحة العامة.
غياب استراتيجية موحدة للأمن الغذائي حوّل هذا الملف من فرصة للنهوض إلى أزمة متفاقمة؛ فالمزارع يعمل دون توجيه، الأسواق تعمل دون رقابة فعّالة، والمستهلك في النهاية يدفع الثمن صحيًا واقتصاديًا.
الجنوب الليبي: ثروة استراتيجية
يمثل الجنوب الليبي بثرواته الزراعية والحيوانية، إضافة إلى النفط والغاز، عمقًا استراتيجيًا للبلاد. ومع حالة الاستقرار الأمني النسبي التي يشهدها الجنوب حاليًا، برزت محاولات لإعادة الاعتبار لدوره الوطني، أبرزها جهود لجنة إعادة تنظيم الجنوب بالقيادة العامة للجيش.
بدأت اللجنة خطوات مهمة، منها حصر أكثر من ألفَي دائرة زراعية تنتج القمح والشعير والخضروات والفواكه، في محاولة لبناء قاعدة حقيقية للأمن الغذائي الوطني.
تحديات كبيرة… وغياب البحث العلمي
من أبرز التحديات القائمة:
استمرار الاعتماد شبه الكامل على الاستيراد.
غياب سياسات تشجع زراعة محاصيل قليلة الاستهلاك للمياه في الجنوب مثل الزيتون والعنب.
تراجع دور مراكز البحوث الزراعية مثل مركز سبها الذي كان فاعلًا في السبعينيات.
انتشار المبيدات المحظورة وضعف الرقابة على جودة وسلامة الأغذية.
نقل وتخزين المواد الغذائية بطرق غير صحية، وبيع عشوائي على الطرقات.
نقص الوعي المجتمعي بمخاطر استنزاف المياه واستغلال الأراضي الزراعية بشكل غير مدروس.
جهود مهمة
رغم هذه التحديات، هناك خطوات عملية تستحق الدعم والتوسيع.
فإضافة إلى جهود لجنة إعادة تنظيم الجنوب بالقيادة العامة للجيش، التي بدأت بحصر آلاف الدوائر الزراعية المنتِجة للقمح والشعير والخضروات والفواكه، شهد الجنوب أيضًا إقامة مشاريع زراعية عامة وإعادة تأهيل مشاريع كانت مهملة منذ سنوات، بدور مباشر من القيادة العامة للجيش الليبي، بهدف إعادة إحياء القطاع الزراعي وتحريك عجلة الإنتاج المحلي.
كما شهدت مدينة سبها مؤخرًا تنظيم ورش عمل علمية بالتعاون مع جامعة سبها والمركز الفرعي للبحوث الزراعية، ناقشت مخاطر استخدام المبيدات الزراعية المحظورة وتأثيرها على الصحة العامة والبيئة. هذه الأنشطة العلمية تُسهم في رفع الوعي، وتصدر عنها توصيات مهمة يمكن أن تتحول لاحقًا إلى سياسات عملية.
ورغم محدوديتها، تُذكّر هذه الجهود بأهمية إعادة الاعتبار للبحث العلمي والإرشاد الزراعي كأحد الأعمدة الرئيسة لتحقيق أمن غذائي مستدام.
أين دور الإعلام في هذه القضية الوطنية؟
ورغم مساس ملف الأمن الغذائي بحياة كل مواطن، لا يحظى هذا الملف بحضور كافٍ في وسائل الإعلام الليبية، التي تُركّز في معظمها على البرامج السياسية والخلافات اليومية.
إن إثارة هذا الموضوع على نطاق واسع ليست رفاهية إعلامية، بل مسؤولية وطنية تقتضي أن يكون الأمن الغذائي حاضرًا في النقاش العام كأولوية تمس صحة الإنسان الليبي ومستقبل الأجيال.
خاتمة
إن ملف الأمن الغذائي لا يجب أن يبقى حبيس الشعارات أو الورش النظرية، بل يحتاج إلى إرادة سياسية موحدة، ورؤية وطنية ترى في صحة المواطن وأمنه الغذائي أولوية فوق كل الحسابات.
ربما يكون هذا الملف هو القاسم المشترك الذي يجمع الليبيين حول هدف واحد: بناء دولة تُطعم أبناءها من أرضها، تحمي صحتهم وتؤسس لمستقبل أفضل.
فهل يدرك الليبيون اليوم أن الأمن الغذائي ليس مجرد أزمة إضافية، بل قضية وجود؟
The post الأمن الغذائي في ليبيا.. أزمة صامتة قد توحّد الليبيين رغم الانقسام appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.