عبر مراحل الحياة البشرية الطويلة، يروي لنا التاريخ حتميّة الصراع بين الحضارات المختلفة التي سادت وبادت فوق الأرض، حيث أن الثابت هو أنه لا ديمومة مطلقة لسيادة أي حضارة، وأن التغيير هو سنّة هذه الحياة وواقعها، وهكذا كما سمعنا عن حضارة الصين القديمة والحضارة الفرعونية والرومانية والفينيقية والإغريقية والإسلامية وغيرها، التي سادت في أزمنة مختلفة، ولازالت شواهدها حاضرة في ذاكرة التاريخ حتى الآن، علينا أن نقتنع بأن التغيير وتبادل الأدوار في صراع الحضارات سنّة كونيّة تدفعها إرادة الهية أقوى من إرادة البشر.
إن التغيرات التي حدثت وتحدث على كوكبنا في صراع الحضارات، تبدو وكأنها جزء من منظومة تغيير مستمر يتحكم فيها خالق الكون ومدبّره، ولا إرادة للبشر فيها فهم مجرد أدوات فقط، ويقودنا ذلك إلى دوافع نشوء الحروب بين الكيانات عبر التاريخ، وكيف أن البشر يقبلون بكل سذاجة أن يكونوا قرابين لحروب طاحنة لا فائدة تعود عليهم منها كأفراد إلا الموت! وفي ذلك تدافع قدري لحفظ موازين الكون فوق تفكير ورغبة البشر، ولو نظرنا إلى الحرب الجارية في أوكرانيا الآن، نستنبط ذلك بوضوح، فقد كان بإمكان روسيا أن تحتل أوكرانيا في خلال أيام فقط منذ بداية هجومها، عندما توغّلت خلال يوم واحد فقط وطوّقت العاصمة كييف! لكن السؤال الكبير لماذا توقفت روسيا عند حد معين بما سمح لأوكرانيا بإعادة تموضع قواتها ووصول المساعدات العسكرية لها من حلف الناتو وأمريكا فيما بعد؟!.
إن الإجابة على هذا السؤال تقودنا إلى حقيقة قدريّة صراع الحضارات، ذلك أن روسيا وأوكرانيا كانتا مجرد أداة في مسيرة صراع الحضارات، ولقد ثبت فعليا عندما رمت أمريكا وأوروبا – وهم يمثلون الحضارة الغربية – بثقلهم في هذه الحرب التي كان ممكنا إيقافها بأقل قدر من الخسائر بشريا وماديا، ولو باحتلال روسيا لكل أوكرانيا، لأنه من الطبيعي بعد ذلك أن تنشأ مفاوضات تسفر عن خروج الروس سلميا، مقابل حصولهم على بعض الضمانات المحددة، لكنها مشيئة الخالق سبحانه وتعالى أن يستمر الصراع ويكبر برغم الضحايا البشرية من الطرفين، وما يتم صرفه من أموال باهضة ذات أثر خطير على الدول المندمجة في الصراع اقتصاديا وماليا، بما يُهيىء للتغيير الكبير القادم في خارطة العالم الجيوسياسية.
إن الحرب في أوكرانيا وصلت إلى خط اللاعودة، وهو ما يدعم نظرية حتمية التغيير في صراع الحضارات، إذ من غير الممكن أن يتنازل الغرب أو روسيا، وبذلك ستستمر هذه الحرب حتى نهايتها المقدرة لها من الله، قد تطول لسنوات وقد تقصر لكن المؤكد هو أنه في كل يوم جديد يتعمّق شرخ الاختلاف ويتسع بين أطراف الصراع، ومن ذلك تتولد دوافع إعادة التموضع من الأطراف المتورطة في الصراع بحثا عن مصالحها، بما يؤدي إلى كسر طوق التحالفات التي غذّت وتغذّي الحرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما سيؤدي إلى خلق عوامل مؤثرة تدفع إلى حتمية التغيير في المشهد بطريقة راديكالية وغير متوقعة من البعض.
قد لا أبالغ أن اقول إن إرهاصات تقهقر الحضارة الغربية بقيادة أمريكا قد بدأت فعلا من أوكرانيا، وأن تغييرات دراماتيكية في الخارطة الجيوسياسية للعالم ستحدث قريبا، وأن القطبية الأحادية في العالم قد ولّت عهودها، إذا نحن على موعد مع التاريخ، نشهد فيه تشكّل عالم جديد بأقطاب جديدة على انقاض الراهن الأحادي، والأقرب هذه المرة ستكون بعودة سيادة حضارة الشرق التي تقودها الصين حاليا ودول آسيوية إخرى مضافا إليها روسيا ودول عربية وإيران وتركيا وتشكيل أوروبي جديد.
تجدر الإشارة هنا إلى أن ما حدث من تقارب خلال هذه السنة بين كل من السعودية وإيران وبين مصر وتركيا وتسارع وتيرة عودة سوريا إلى حضنها العربي، كلها مؤشرات داعمة لنظرية صراع الحضارات وتعاقب أدوار سيادتها، وكأني استشعر انتهاء حقبة السيطرة الغربية وعودة الروح إلى هذه الدول، بعد أن ظلّت مكبّلة بقيود أمريكية طيلة حوالي قرن من الزمان، اتمنى أن يكون للعرب والمسلمين دورا فاعلا مميزا في حقبة سيادة جديدة من الشرق العظيم، ولما لا فالعرب والمسلمون الآن يمتلكون من عناصر القوة الاقتصادية والبشرية والمالية ما يجعلهم في قمة الهرم.
The post صراع الحضارات.. الشرق يعود والغرب يتقهقر! appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.