البعثة الأممية لا تدير حوارًا بل تدير زمنًا

0
10

بينما ينتظر الليبيون بصيص أمل يخرجهم من هذا النفق الذي طال كثيرًا، تفاجئهم البعثة الأممية مرة أخرى بجرعة جديدة من العبث السياسي المغلّف بكلمة “حوار”.

وما يُسمّى بالحوار المهيكل لم يعد سوى منتج جديد من منتجات البعثة، يتم تسويقه كل مرة بعبوات مختلفة ونكهات جديدة، لكن المحتوى واحد: فراغ سياسي وتمطيط للأزمة لا أكثر.

فمنذ أيام فقط أعلنت البعثة معايير واضحة للمشاركة في هذا الحوار، وما إن اعتقد الليبيون أن الأمر جاد حتى عادت لتغير الشروط كما لو كانت تعدّل مزاجها في لحظة. مرة تتحدث عن تمثيل شامل، ثم تتراجع لتحدثنا عن خبراء، ثم تعود لتطرح “تصنيفًا جديدًا” للمشاركين، وكأن ليبيا مجرد لعبة لوحية يعيدون ترتيب أحجارها كلما شعروا بالملل.

ما تقوم به البعثة لم يعد يُقرأ بوصفه ارتباكًا أو سوء إدارة، بل أصبح نهجًا مقصودًا لإبقاء الأزمة في حالة حركة دون أن تصل إلى أي نقطة نهاية. إنهم يبدلون المعايير كما تُبدَّل الأقنعة في مسرحية رديئة، ويظنون أن الليبيين لا ذاكرة لهم ولا قدرة على الربط بين البارحة واليوم.

المشكلة ليست في تغيير الشروط، بل في أن البعثة أصبحت تتصرف وكأن ليبيا مختبر تجارب، وكأن الشعب الليبي حقل تجارب لصياغة “حوار تجريبي” لا هدف له سوى تجميل الفشل المستمر منذ سنوات. فمنذ متى تُدار الحوارات الجادة بهذه الطريقة؟ ومنذ متى أصبح الحل يبدأ كل مرة من الصفر لأن البعثة “أعادت تقييم المعايير”؟ الحقيقة أن ليبيا ليست بحاجة إلى طاولات جديدة ولا لجان جديدة ولا مسميات جديدة، بقدر حاجتها إلى خروج البعثة من دور “مهندس الأزمة” والعودة إلى دورها الطبيعي: تسهيل الحل لا صناعة عراقيل جديدة.

إن ما يجري الآن ليس سوى حلقة جديدة من حلقات العبث الذي لا ينتهي، حيث تتبدل الشروط وتتغير الأسماء وتبقى النتيجة واحدة: أزمة أطول، معاناة أكبر، وضياع وقت لا يقدَّر بثمن.

في كل مرة يقترب فيها الليبيون من خطوة نحو الأمام، تظهر مبادرة جديدة تعيد الجميع إلى الخلف خطوة أخرى. ولأن البعثة تُدرك أن هذه اللعبة لم يعد يسهل تمريرها، فإنها تلجأ للتبرير الممل المعتاد: “بناءً على طلب الأطراف الليبية”، وكأن الليبيين يؤمنون فعلًا بأن هذه الأطراف تُستشار، أو أن صوتهم يُسمع أصلًا. في الواقع، الحوار الذي تتحدث عنه البعثة لا يختلف في مضمونه عن برنامج من برامج الترفيه السياسي، حيث يجتمع أشخاص مختارون بعناية لتصوير “مشهد ديمقراطي” جميل يُقدَّم للمجتمع الدولي على أنه إنجاز، بينما يعرف الليبيون جيدًا أنه مجرد تمثيل لا يغيّر شيئًا على الأرض.

والسؤال الذي يخشاه الجميع لكنه يجب أن يُطرح هو: لمن يفيد هذا العبث؟ ولماذا لا تريد البعثة نهاية للأزمة؟ فمن الواضح أن كل تغيير في المعايير وكل مبادرة جديدة وكل إعلان معدّل لا يهدف سوى لإطالة عمر الفوضى، وكأن الأزمة أصبحت رأسمالًا يجب الحفاظ عليه. وإذا كانت هناك نية حقيقية للحل لما تغيّر شيء من الشروط إلى هذا الحد، ولما كانت كل خطوة جديدة تُعيد الليبيين إلى نفس النقطة التي بدأوا منها قبل عشر سنوات.

إن البعثة اليوم لا تدير حوارًا بل تدير زمنًا، وتتحكم في إيقاع الأزمة، وتضمن استمرارها بطريقة محسوبة: لا انفجار كامل ولا حل كامل، فقط استمرار يضمن بقاء الجميع في أماكنهم.

ولأن الشعب الليبي ليس غافلًا، فقد بات واضحًا له أن ما يحدث مجرد عبث سياسي مقصود أو غير مقصود، لكنه في النهاية يؤدي إلى نتيجة واحدة: استمرار معاناة الليبيين وتأجيل أي حل حقيقي.

ليبيا لا تحتاج لحوار مهيكل ولا غير مهيكل؛ ليبيا تحتاج إلى إرادة دولية عادلة، وإلى موقف صريح يقول إن الحل يبدأ من احترام إرادة الليبيين لا من تغيير قوائم المشاركين كل أسبوع.

وما دام المشهد يُدار بهذه الطريقة المتقلبة، فإن ليبيا ستظل عالقة في منتصف الطريق، لا تسقط ولا تتعافى، فقط تدور في حلقة لا تنتهي… حلقة يديرها من لا يريدون لها أن تنتهي.

The post البعثة الأممية لا تدير حوارًا بل تدير زمنًا appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.