منذ أن عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بداية هذا العام، دخلت الولايات المتحدة والعالم مرحلة جديدة من الاضطراب السياسي والاقتصادي، طبعها أسلوب ترامب المفاجئ، وقراراته السريعة التي أعادت تشكيل الأولويات الداخلية والخارجية.
خلال ستة أشهر فقط، نجح الرئيس الأميركي في قلب المشهد رأسًا على عقب، دافعًا بسياسات جمركية صارمة، وتغييرات هيكلية حكومية، وتعديلات ضريبية جذرية، في وقت يتأرجح فيه الاقتصاد الأميركي بين موجات تفاؤل استثماري ومخاوف من الركود.
ضربات جمركية مفاجئة… والأسواق في حالة تأهب
من أبرز ملامح الأشهر الستة الأولى لولاية ترامب الثانية كانت عودته القوية إلى سياسة “أميركا أولًا”، عبر رفع معدلات الرسوم الجمركية بوتيرة غير مسبوقة.
ففي ما وصفه ترامب بـ”يوم التحرير”، فرض رسوماً جمركية مفاجئة شملت عشرات الدول، ما أدى إلى أكبر هبوط يومي في أسواق الأسهم الأميركية منذ خمس سنوات في أبريل الماضي.
ورغم أن الأسواق سرعان ما استعادت نشاطها ووصلت إلى مستويات قياسية تاريخية لاحقًا، فإن التهديدات المتكررة من ترامب بشأن جولات جديدة من الرسوم ضد الاتحاد الأوروبي والمكسيك، رفعت متوسط معدل الرسوم الجمركية الفعلي من 2% إلى 8.8% حتى يوليو الجاري، وفق “فايننشال تايمز”، مع تحذيرات من أنه قد يرتفع إلى 20.6% إذا نُفذت التهديدات بالكامل، وهو أعلى مستوى منذ عام 1910.
عائدات ضخمة… ولكن على حساب المستهلك الأميركي
وفق بيانات الصحيفة الاقتصادية نفسها، حققت الحكومة الأميركية عائدات جمركية إضافية بقيمة 47 مليار دولار مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، مسجلة رقمًا قياسيًا بلغ 64 مليار دولار في الربع الثاني وحده.
وكان الجزء الأكبر من هذه الإيرادات ناتجًا عن الرسوم بنسبة 30% المفروضة على الواردات الصينية، بحسب “سكاي نيوز”.
لكن هذه الإجراءات أثارت مخاوف من ارتفاع تكاليف الاستيراد على المستهلك الأميركي. وتشير استطلاعات رأي، مثل ذلك الذي أجرته “سي بي إس” بالتعاون مع YouGov، إلى أن 60% من الأميركيين يعارضون سياسة ترامب الجمركية، بينما عبّر 70% عن اعتقادهم بأن الإدارة لا تُولي خفض الأسعار الأولوية الكافية.
الدولار يتراجع… وفقدان الثقة في “الملاذ الآمن”
شهد الدولار الأميركي أسوأ أداء له منذ عام 1973، نتيجة السياسات الاقتصادية الحادة، والهجمات المتكررة من ترامب على استقلالية بنك الاحتياطي الفيدرالي، ما أثار قلق المستثمرين العالميين بشأن مستقبل الدولار كملاذ آمن.
وفيما يواصل الفيدرالي الأميركي التمسك بسياسة نقدية متشددة للجم التضخم، يستمر ترامب في الضغط من أجل خفض أسعار الفائدة لتحفيز الاقتصاد المحلي.
الهجرة: حملة ترحيل مليونية وارتفاع في الاعتقالات
في الداخل، أعاد ترامب تفعيل أجندته المتشددة تجاه الهجرة، مع حملة غير مسبوقة لترحيل مليون مهاجر غير مسجل سنويًا. وارتفعت بالفعل عمليات الاعتقال التي تنفذها إدارة الهجرة والجمارك، وسط تنديد واسع من منظمات حقوق الإنسان، وتحذيرات من أثر ذلك على سوق العمل في بعض الولايات.
إعادة هيكلة الحكومة الفيدرالية… وإيلون ماسك في المقدمة
ضمن مساعيه لخفض الإنفاق وتقليص حجم الحكومة، أطلق ترامب حملة لإعادة هيكلة واسعة النطاق للجهاز البيروقراطي الفيدرالي، تحت إشراف “إدارة كفاءة الحكومة” التي يترأسها رجل الأعمال إيلون ماسك.
الحملة أدت إلى إغلاق إدارات حكومية كاملة، وُصفت من قبل نقاد بأنها “عشوائية” و”تفتقر للرؤية طويلة الأمد”، بينما أشاد بها مؤيدو ترامب بوصفها خطوة نحو “حكومة أنحف وأكثر كفاءة”.
“مشروع القانون الكبير الجميل”: تشريع ضخم يعيد رسم السياسة المالية
أبرز إنجاز تشريعي خلال النصف الأول من الولاية كان إقرار “قانون مشروع القانون الكبير الجميل”، الذي يتضمن حزمة تخفيضات ضريبية واسعة النطاق، إلى جانب زيادات مستهدفة في الإنفاق على البنية التحتية والتصنيع المحلي.
ورغم مروره بفارق ضئيل في الكونغرس، إلا أنه أصبح القانون المالي المحوري لعهد ترامب، ويتوقع أن تكون له تبعات كبيرة على المدى الطويل.
الشارع الأميركي: تفاؤل في الأسواق، قلق في الواقع
وفق تحليل نشره موقع “أكسيوس”، فإن سوق الأسهم الأميركية حققت ارتفاعًا بنسبة 7% هذا العام رغم الاضطرابات، إلا أن الشارع الأميركي لا يشارك هذا التفاؤل.
أغلبية الأميركيين يشعرون بالقلق إزاء التضخم، وارتفاع الأسعار، ويتخوفون من تبعات الرسوم الجمركية على معيشتهم اليومية.
ويقول إريك فريدمان، من بنك “يو إس”، إن “الأسواق تتوقع انتعاشًا بمجرد انتهاء مرحلة الغموض المرتبطة بالتعرفات، لكن الاقتصاد الأوسع بدأ يتباطأ فعلاً”.
صعود العملات المشفرة والتنظيمات الداعمة
على صعيد الابتكار المالي، شهدت الأشهر الستة الأولى توجهًا واضحًا من إدارة ترامب نحو دعم العملات المشفرة، لا سيما العملات المستقرة، حيث أُقرت تشريعات تخفف من القيود التنظيمية على قطاع التشفير، في محاولة لتحفيز الاستثمار في هذا المجال وتعزيز موقع أميركا كمركز مالي عالمي.
ردود فعل دولية: قلق حلفاء وتصعيد أوروبي
سياسات ترامب التجارية فجرت موجة من التوترات مع الاتحاد الأوروبي، حيث توعدت بروكسل بردود انتقامية على التعرفات الأميركية، خصوصًا تلك التي تستهدف قطاعات السيارات والطيران.
وفي أميركا اللاتينية، وصف الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا تهديدات ترامب بالرسوم الجمركية بأنها “ابتزاز مرفوض”.
المشهد العام: انقسام داخلي وترقّب عالمي
ويعلّق جو يرق، رئيس قسم الأسواق في شركة Cedra Markets، على الوضع بقوله: “الأشهر الأولى من ولاية ترامب الثانية حفلت بسياسات مربكة أثارت مخاوف داخلية وخارجية… لكننا لا نستطيع إنكار بعض الخطوات الجريئة، مثل حوافز الضرائب ودعم العملات الرقمية”.
ويضيف أن “الأسواق تحبس أنفاسها، ولا تزال تنتظر استقرار السياسات الجمركية حتى تظهر ملامح المرحلة المقبلة بوضوح”.
The post ستة أشهر من ترامب.. عاصفة اقتصادية وسياسية تعيد رسم ملامح أمريكا والعالم appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.