كارثة تغيير سعر صرف الدينار الليبي

0
289

لقد مرت بليبيا كغيرها من دول العالم أزمات اقتصادية ومالية خلال العقود الماضية، لكن نعمة النفط المتدفق كانت دوما هي البلسم لكل تلك الجراح، ما جعل ليبيا تتجاوز تلك الأزمات بتأثير أقل، ويؤسفني أن أقول أنه لولا النفط لما تمكن ساسة ليبيا من تجاوز أبسط الأزمات المالية والاقتصادية نظرا لحجم الفساد المستشري وثقافة الغنيمة التي تسيطر على تفكير وعقول من يتولون المناصب وصناعة القرار.

وبرغم عوائد النفط المجزية جدا بالعملة الصعبة إلا أن السياسات الهوجاء والعشوائية جعلت الشعب الليبي يعاني صعوبات معيشية كبيرة ومستمرة منذ عقود، وزادت حدتها خلال العشرية الأخيرة تحديدا، ومن خلال متابعتنا للشأن الليبي نجد أن مصدر معاناة الليبيين أساسا يكمن في جملة من القرارات والمواقف العشوائية التي تتخذها السلطات الحاكمة، بدون دراسة وفي غياب تام للشعور بمسؤولية ما قد يترتب عنها من نتائج على الوضع الاقتصادي والمعيشي للشعب الليبي، فمثلا أثناء حقبة حكم القذافي ساهمت سياسته الخارجية غير المنضبطة في تعريض البلد لفترات من الحصار والعقوبات الاقتصادية والمالية، من قبل أمريكا واتباعها والتي انعكست نتائجها سلبا على الوضع الاقتصادي والمعيشي لليبيين.

كان الدينار الليبي إلى بداية الثمانينيات متمتعا بقوة مالية كبيرة، حيث دينار ليبي واحد يعادل ثلاثة دولارات أمريكية، والى غاية النصف الأول من عقد الثمانينيات تختفي تماما السوق الموازية، والتي ظهرت مع بداية النصف الثاني لعقد الثمانينيات نتيجة لتأثير العقوبات الأمريكية، التي بدأت تقريبا مع نهاية العام 1981م وصولا إلى الحظر الجوي الذي بدأ مع العام 1993م، وخلال تلك الفترة تقهقرت قيمة الدينار الليبي في السوق الموازي وتدنت حتى وصلت إلى (دولار أمريكي واحد يعادل 3.5 دينار ليبي).

أمام ذلك التضخم والصعوبات التي واجهت الليبيين معيشيا، وهبوط قيمة المرتبات للأفراد والتي بقت مقيدة بقانون رقم 15 للمرتبات لسنة 1981م، كانت المعالجة خلال تلك الفترة العصيبة تتمثل في دعم السلع الأساسية والمحروقات، وهو ما خفف من أثر الأزمة على الليبيين معيشيا، لكن ذلك بالطبع كان له أثره البالغ على معدلات الصرف في بند التنمية، الذي كاد أن يكون معدوما، مما ساهم في تردي وضع البني الأساسية وتفاقم مشكلة السكن والبطالة، وهكذا كان وضع البلد المالي والاقتصادي منهكا ومتذبذبا وفقا لأسعار النفط التي شهدت هبوطا حادا جدا خلال الثمانينيات.

وبعد أن حاولت حكومة القذافي إصلاح ما أفسدته مسبقا في علاقاتها مع أمريكا والغرب من خلال جملة من الإجراءات والتعويضات والتنازلات، تم رفع الحصار وبدأت الحياة الاقتصادية تدب في ليبيا من جديد، لكن مكنة مواكبة الركب تطلبت خطوات صعبة ومؤثرة، لعل من أبرزها تخفيض قيمة الدينار الليبي أمام الدولار، حيث تقرر أن تعدل القيمة إلى (دولار أمريكي واحد يعادل 1.3 دينار ليبي) في العام 2001م وهو ما يعني تخفيضا حادا لقيمة الدينار الرسمي تقترب من عشرة أضعاف!.

طبعا ذلك الإجراء تأثر به ولا شك مستوى معيشة الليبيين خاصة في الحاجيات الضرورية غير المواد التموينية والوقود والتي استمر دعمها قائما، ذلك الدعم الذي فتح بابا واسعا لتجارة التهريب سواء للمواد التموينية أو المحروقات، ونظرا للفارق الكبير بين أسعار تلك المواد الفعلية والمدعومة ومقدار الفوائد المجناة صارت عمليات التهريب جاذبة لكل الفاسدين من المسئولين والطامعين مما شكل مافيا كبيرة للتهريب شارك فيها متنفذون، حتى أصبحت جزء من تعامل يومي في ليبيا، هذه المافيا صارت تحرص على بقاء سياسة الدعم، ففي كل مرة يحاول فيها البعض رفع الدعم واستبداله بالدفع النقدي للمواطنين نجد من يعارض بقوة بغية استمرار الدعم.

استمر الدينار الليبي بقيمته المصرفية والأخرى السوقية الموازية وحدث تعادل نسبي خلال الفترة من 2002 وحتى 2013م إلا أن سوء الإدارة والفوضى التي أعقبت أحداث فبراير 2011م وما ترتب عنها من إهدار للمال العام وتوقف لتصدير النفط في بعض الأحيان، دفع إلى اتساع الهوة من جديد بين سعري الدينار الليبي سوقيا ومصرفيا، وبلغت مداها خلال عامي 2016 و2017 عندما وصل سعر الدولار إلى ثمانية دنانير، غير أن ما كان يخفف من الأزمة هو أن الاعتمادات لتوريد المواد الاستهلاكية كانت بسعر الصرف الرسمي.

إن استمرار التضخم وغلاء الأسعار ونقص السيولة، تطلب معالجات سريعة نتج عنها مجموعة من الخيارات التي قدمت أثناء فترة حكومة السراج، ومن بينها تغيير سعر الصرف إلى  (2.9 أو 3.9 أو 4.5 )، وحيث أن السياسة النقدية مسؤول عنها المصرف المركزي، الذي لم يشاء تغيير سعر الصرف آنذاك، أتجه السراج إلى إصدار قرار رقم 1 لسنة 2018م والقاضي بفرض رسوم على بيع النقد الأجنبي بنسبة (183%)، ولقد نجح ذلك الإجراء فعلا في تقليص الفجوة بين السعر الرسمي والسوقي حتى قارب إلى (3.8 دينار للدولار)، ورافق ذلك بيع النقد الأجنبي بمخصصات سنوية ما سمي (مخصصات أرباب الأسر) التي ساهمت فعلا في انتعاش الوضع الاقتصادي لليبيين من خلال الاستفادة من هامش البيع بسعر الفرق بين الرسمي والسوقي.

إن أشد النكسات وأخطرها التي أصيب بها الوضع المالي والاقتصادي الليبي هي بعد مجيء حكومة الدبيبة، والتي أقنعت محافظ المصرف المركزي على عملية تغيير سعر صرف الدينار من 1.3 دينار لكل دولار إلى 4.5 دينار لكل دولار،
ولست أبالغ إذا قلت إنها ترقى إلى مستوى جريمة مكتملة الأركان في حق الشعب الليبي، ذلك أنها لم تكن مدروسة بعناية ونتائجها وخيمة مع الزمن، وما يثير حفيظتي أنه لم نكن في حاجة لذلك التغيير المفاجئ إذ كانت الأوضاع المالية شبه مستقرة في البلد فالسعر الموازي كان قريبا من 4 دينار للدولار بعد أن تجاوزنا حالة 8 و 9 دينار خلال عامي 2017/2016.

ولقد كانت طريقة المعالجة بفرض رسوم أو ضريبة شراء العملات الأجنبية دون المساس بسعر الدينار الرسمي ناجحة وحققت التوازن المطلوب خلال أقل من سنة.

من المؤسف أنه بمجرد ما استلم “الدبيبة” السلطة تم تحريك خيار تعديل سعر الصرف من قبل جهابذة الاقتصاد العبثيين ووافقهم في ذلك، وتمكن من إقناع المحافظ وتم تعديل سعر صرف الدينار من (1.3 دينار للدولار الى4.48 دينار للدولار)، ذلك القرار الكارثي الذي تم فيه تخفيض الدينار بمعدل ثلاثة أضعاف تقريبا، ويبرز السؤال هنا وهو: كيف يتم تخفيض قيمة عملة دولة رصيدها من الذهب مستقر واحتياطياتها من العملة الصعبة موجودة وليست عليها أي ديون خارجية؟!

الأشد أثرا هو استحالة رفع قيمة الدينار أمام الدولار مرة أخرى كما يتوهم البعض، بل استمرار خفض قيمة الدينار اكثر وأكثر مع الزمن، والمؤسف حقا هو استغفال الشعب بزيادة المرتبات بمقدار الضعف في حين أن قيمة الدينار انخفضت بمقدار ثلاثة أضعاف وأن من كان سابقا مرتبه 500 دينار يعادل تقريبا 350 دولار وأصبح الآن مرتبه 1000 دينار أي ما يعادل 200 دولار فقط! بمعنى أن هذه الزيادة ظاهرية فقط وليست حقيقية، ولن نصل فعليا إلى ما كان عليه الوضع قبل التعديل إلا بمضاعفة المرتبات ثلاثة أضعاف وهذا في حكم المستحيل، إنها حقا كارثة بحجم جريمة في حق الشعب الليبي، سيستشعرها الجميع مستقبلا وسيندمون حيث لا ينفع الندم.

The post <strong>كارثة تغيير سعر صرف الدينار الليبي</strong> appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.