منذ أكثر من عقد، لا تزال ليبيا تتخبط في حالة من الانقسام السياسي والصراع المزمن، رغم عشرات المؤتمرات الدولية، وشعارات “الدعم” و”القلق” التي تتكرر بلا أثر حقيقي. والمؤلم أن هذا الانقسام، الذي بات عبئًا خانقًا على المواطن الليبي، لا يُقلق المجتمع الدولي كما يُفترض؛ بل على العكس، يبدو أنه يخدم مصالحه، وربما يسعده إن تمكّن من تقسيم ليبيا إربًا إربًا.
فمن هو الخاسر؟ ومن المستفيد الحقيقي من هذا الوضع العبثي؟
الخاسر الوحيد: الشعب الليبي
لا يحتاج الأمر إلى كثير من الجهد لتحديد الطرف المتضرر. فاسأل أي مواطن ليبي بسيط:
أين دولتي؟ أين أمني؟ أين تعليم أطفالي؟ أين حقي في الحياة الكريمة؟
سيقول لك بمرارة: “ضاع كل ذلك بين شرق يرفع شعارات السيادة وغرب يتحدث باسم الشرعية، وبين سياسيين يبحثون عن المناصب، ومرتزقة يتقاسمون البلاد مع الخارج.”
من يغذّي الصراع؟ ومن يربح من استمرار الانقسام؟
الولايات المتحدة الأمريكية
تلعب واشنطن دور “مدير التوازنات”. تترك الباب مفتوحًا أمام الطرفين: الدبيبة وحفتر، وتضارب بينهما لتحقيق مصالحها.
إن لم يبلع أحدهم الطُعم، سيبلعه الآخر. المهم أن تظل أمريكا هي من يمسك بالخيوط.
روسيا
كما في قصة الدب والثعلبين، تسللت روسيا بهدوء إلى عمق الجنوب الليبي برضا من القيادة هناك، وأنشأت قواعد عسكرية، ونشرت كتائبها، ومدّت نفوذها إلى السودان، مالي، وربما النيجر.
غايتها النهائية: قواعد دائمة تحت خاصرة أوروبا، ونفوذ اقتصادي يُترجم إلى عقود وصفقات تملأ يدها وتُفرغ يد الليبيين.
تركيا
مثلها كمثل القردين والثعلب الذي فض النزاع بينهما لصالحه وقد سبق لي أن رويت القصة في مقال سابق تركيا الآن بعد أن سيطرت على غرب ليبيا أنشأت مصالح كبيرة لها في الشرق و هي تبني الآن جسور المصالح بينها وبين حفتر وأبناءه و تخطط منذ زمن للبقاء في ليبيا إلي أمد لا يعلمه إلا الله.
الإمارات
لا تنظر إلى ليبيا كدولة شقيقة بل كمنافس استراتيجي.
فموقع ليبيا الجغرافي وثرواتها الطبيعية يؤهلها لتكون بوابة تجارة عالمية نحو أوروبا، وهذا يتعارض مع طموحات الإمارات في السيطرة على تجارة البحر الأحمر والخليج. لذا، دعم الانقسام أداة لضمان تفوقها التجاري والجيوسياسي.
إيطاليا، مالطا، اليونان
يتعاملون مع ليبيا بمنطق “المزاد”. يقدّمون عروضًا للطرفين، ويفاضلون بين من يحقق مصالحهم البحرية والهجرة والطاقة.
فليبيا الضعيفة المنقسمة، بالنسبة لهم، أفضل من ليبيا قوية وموحدة قد تفرض شروطها على حدود المتوسط.
فرنسا
لا تزال تدعم حفتر لتحقيق أهدافها في الجنوب الليبي، الذي تراه بمثابة امتداد لنفوذها المتهالك في إفريقيا.
فبعد تراجعها في مالي وتشاد، ترى في الجنوب الليبي “جائزة تعويضية” تحافظ بها على ما تبقّى من صورتها الإمبراطورية.
مصر، الجزائر، تونس، وبعض دول الخليج والسعودية
تخشى هذه الدول من نجاح التجربة الليبية في بناء نظام ديمقراطي حقيقي، إذ قد تلهم شعوبها للمطالبة بالحرية والعدالة والكرامة.
لذلك، تعمل — ولو بشكل غير مباشر — على إجهاض الثورة الليبية وإبقاء الوضع في دائرة العبث السياسي والعسكري.
الأمم المتحدة
بعثات بأسماء براقة، وميزانيات ضخمة، وموظفون برواتب خيالية وسفر لا يتوقف، لكن الواقع لا يتغير.
هم في الحقيقة يديرون الأزمة، لا يحلّونها، لأن استمرارها هو ما يبرّر وجودهم الفاخر في بلد غارق في الفقر والدم.
وأنصار النظام السابق… يراقبون المشهد بصبر
يراهنون على إنهاك الطرفين، ويتربصون اللحظة التي يتعب فيها الجميع، ليقدموا أنفسهم كـ”المنقذ الوحيد”.
وكلما طالت الفوضى، ازداد أملهم في العودة تحت شعارات “الاستقرار والقبضة الحديدية”.
منظومة كاملة تستفيد من بقاء الحال كما هو عليه
الانقسام لا يخدم فقط القوى الدولية، بل يحمي:
• المرتزقة والميليشيات المسلحة
• مهربي الوقود والمخدرات وتجار العملة
• آلاف “الموظفين الوهميين” الذين يتقاضون رواتب بلا عمل
• الفاسدين الذين يغسلون أموالهم بغطاء سياسي
• ناهبي مصرف ليبيا المركزي، ممن يجنون الملايين باسم “الوطنية”
سواء في الغرب أو الشرق، سواء كانوا في حكومة الدبيبة، أو قيادة حفتر، أو في مجلس النواب أو المجلس الأعلى للدولة، الجميع مستفيد من استمرار الانقسام:
• رواتب عالية
• سلطة دون محاسبة
• امتيازات لا تتوقف
• مؤسسات تدار بالولاء، لا بالكفاءة
إنهم لا يريدون حلاً، بل “إدارة استمرارية” تضمن بقاءهم.
والحل؟ ليس في مؤتمرات الخارج… بل في ثورة الداخل
ليبيا لا ينقصها المال، ولا الموقع، ولا الموارد… لكنها تحتاج إلى ثورة ثانية واعية، منظمة، لها قيادة حقيقية وأهداف واضحة.
ثورة لا تتوقف حتى تقتلع الفساد من جذوره، وتكسر احتكار السلطة، وتعيد الحكم لما أنزل الله به من شرع وعدل.
لن يأتي الرخاء على طبق من ذهب، بل على أيدٍ تعرف طريقها إلى الكرامة والحرية.
وعلى دماء الفاسدين، تُبنى دولة يحكمها شعبها، لا يُؤجر قرارها لمن يدفع أكثر.
The post لماذا يرضى المجتمع الدولي بانقسام ليبيا؟ ومن الرابح الحقيقي في معادلة الخراب؟ appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.