مثقفو الغرب بين تشومسكي وهابرماس.. انقسام في الضمير

0
6

لا يُمكن اختزال الموقف الثقافي الغربي في خطاب واحد، فـمثقفوا الغرب ليسو كتلة واحدة بل هم فسيفساء من المواقف المتعارضة، تتنازعها الهويات والانتماءات والولاءات. هذا الانقسام يعكس بدوره التصدّع الحاد في الضمير الغربي بين: الغرب الرسمي المتمثل في الحكومات والمؤسسات الأمنية والإعلام المهيمن ، والغرب الشعبي الذي تجسده الحركات الاحتجاجية والشباب والنقابات وبعض الأكاديميين، والغرب المؤسساتي المتمثل في الجامعات ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث والغرف التجارية ومجالس رجال الاعمال.

على مستوى الغرب الرسمي، لطالما روّج الخطاب الغربي السائد أن تأسيس إسرائيل جاء استجابة لمعاناة اليهود في أوروبا، بوصفها وطنا قوميا يحميهم من الاضطهاد. لكن قراءة متأنية للتاريخ تكشف أن المشروع الصهيوني في جذوره الغربية كان بالأساس حلاً استعماريا لأزمة أوروبا مع ما عُرف بـالمسألة اليهودية، لا تعاطفًا مع ضحايا معسكرات الاعتقال.

فكرة تصدير اليهود خارج أوروبا لم تكن جديدة. فقد طرحتها النخب الأوروبية منذ القرن التاسع عشر كحل عنصري مزدوج ، تطهير القارة من الآخر اليهودي من جهة، وزرع كيان غريب في الشرق الأوسط ليكون حارسا لمصالح الإمبريالية من جهة أخرى. هذا ما يفسر الدعم البريطاني المبكر لوعد بلفور، ثم التأييد الأمريكي-الأوروبي المطلق لإسرائيل بعد 1948.

اليوم، يُعاد إنتاج هذه الأيديولوجيا تحت شعارات الحضارة والديمقراطية . فالدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل رغم جرائمها الواضحة يكشف أن المشروع الاستعماري ما زال قائمًا وإن كان بخطاب ليبرالي جديد. المثقفون التابعون لهذا الخطاب يلعبون دور الكهنة الجدد الذين يقدسون هذه الأسطورة، ويحوّلون الاستعمار إلى قضية أخلاقية بدلا من كشفه كمشروع هيمنة.

وعلى مستوى المثقف وضميره، نرى الانقسام واضحا جليا. في هذا المشهد، يبرز المثقفون كمرايا تعكس هذا الانقسام. من نعوم تشومسكي، مثقف المقاومة، الذي ظلّ صامدا في نقده للاستعمار والإمبريالية الغربية والسياسات الاستيطانية الإسرائيلية إلى يورغن هابرماس فيلسوف “المجال العام”، مثقف السلطة، الذي انحاز في لحظاتٍ حاسمة إلى الرواية الرسمية للغرب، خاصة في قضية فلسطين.

تشومسكي لم يتردّد، كأبرز مثقفي اليسار في فضح آلة القتل الغرب-صهيونية، من فيتنام إلى فلسطين ، موقفه لم يكن استثناء في سيرته، بل امتدادًا لرفضه الدائم للهيمنة، سواء من حكوماته أو من حلفائها. فهو يمثل أولئك المثقفين الذين يرفضون أن يكونوا أدوات في خدمة السلطة بل يحوّلون معرفتهم إلى سلاح نقدي.

على النقيض، نجد هابرماس، أحد أبرز وجوه الفلسفة الأوروبية المعاصرة الذي أيد موقف الاتحاد الأوروبي المؤيّد لإسرائيل خلال عدوانها على غزة، معتبرا أن إسرائيل تمثل قيم الديمقراطية في مواجهة الإرهاب.
هذا الموقف كشف عن تناقض صارخٍ في خطاب فلسفي يدّعي الدفاع عن العقلانية ، لكنه يسقط في فخّ الانحياز إلى الرواية الاستعمارية حين يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين.

بين هذين القطبين، يظهر الغرب الآخر ما يمكن أن نسميه الغرب الشعبي ذلك الذي تجسّد في أمثال الناشطة الأمريكية راشيل كوري، التي سحقتها دبابة إسرائيلية عام 2003 دفاعًا عن بيت فلسطيني، أو في طلبة الجامعات اليوم الذين يهتفون ضدّ الإبادة في غزة. هذا الغرب يُذكرنا بأن الضمير الإنساني لا يموت، رغم محاولات المؤسسة طمسه.

الصراع داخل الغرب ليس بين المثقف والسلطة فحسب، بل بين مثقفين أنفسهم ، بعضهم يصطف في خندق القوة، وبعضهم يختار معركة الضعفاء.

الفارق بين تشومسكي وهابرماس ليس مجرد خلاف أكاديمي، بل هو انعكاس لانقسام أعمق في الضمير الغربي بين من يرى الإنسان في كل مكان، ومن يرى إنسانا على مقاسِ جغرافيته وأيديولوجيته.

The post مثقفو الغرب بين تشومسكي وهابرماس.. انقسام في الضمير appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.