مع قناعة الكاتب التامة بالدور المهم الذي تلعبه الدولة في مصالحة الشعب والاعتذار له عن الانتهاكات التي سببت فيها الدولة خلال المراحل الثلاثة بدء من الملكية ومروراً بالجمهورية-الجماهيرية وصولاُ إلى المرحلة الانتقالية التي نعيشها اليوم. ويظل ارتباط المصالحة بالصلح وتحقيق المصالح وهذا يتطلب من الدولة المصالحة التاريخية مع تأسيسها وكذلك المصالحة الاقتصادية بعد انتهاكات اقتصادية جمة أنزلت بالاقتصاد الليبي إلى الحضيض. لذلك سنفرد هذه المقالة لمناقشة الانتهاكات الاقتصادية وضرورة المصالحة الاقتصادية والتي تظل من واجب الدولة تجاه المصالحة مع الشعب.
أهمية مصطلح المصالحة الاقتصادية:
يرى الكاتب أن المصالحة عبارة عن نتيجة لخطوات عملية ومهمة ضمن مسلسل طويل للعدالة الانتقالية يركز فيها، بالنسبة لنا في ليبيا، على اعتراف الدولة بانتهاكاتها ضد الشعب الليبي، والاعتذار له عن جميع الحقب المجحفة ضده. لقد أستهجن الكاتب مع أول لقاء مع منظمة لا سلام بدون عدالة سنة 2012م مصطلح العدالة الانتقالية! وتعلم أيضاً بأنه لا يوجد منهج أحادي ولا آليات محددة للصلح وتحقيق المصالح للجميع. لذلك أرتأى الكاتب طرح أهمية المصالحة التاريخية التي عبر عنها بأخر مقالة له بعنوان: “المصالحة التاريخية والدور الأمريكي”، واليوم يطرح مصطلح يظن بأنه جديد: المصالحة الاقتصادية! إلا أنه تبين له بأنه قد استخدم كثيرا بتونس الشقيقة وبقدر في الجارة الجزائر وأيضاً في كندا.
تونس والمصالحة الاقتصادية والمالية:
في تونس تم ربط قانون العدالة الانتقالية بالمصالحة الاقتصادية وحسب وعود الباجي السبسي الانتخابية بأن يصدر عفو عام مقابل تعويض الدولة عن أموالها المنهوبة. وقد تبنت الحكومة بتاريخ 14 يوليو 2015 مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية وعرضته على البرلمان، ومع أنها كانت ستكون خطوة جريئة ومهمة للإصلاح والمصالحة في تونس إلا أنه قوبلت برفض شعبي واسع من المعارضين فهناك من يرى بأن ذلك إفلات من العقاب وتبييض لصورتهم والأموال المنهوبة! وقد أشار إلى ذلك الكاتب خميس بن بريك في مقالة بعنوان: “قانون المصالحة الاقتصادية بتونس عفو أم إفلات؟، ” نشرت على الجزيرة نت بتاريخ 6/5/2 2017 م، وحسب ما نقله عن السيد/ مكي بأنه: ” يجب إدخال تعديلات جوهرية على هذا القانون حتى لا يتعارض مع روح العدالة الانتقالية التي تقوم على أساس كشف الحقيقة والمحاسبة ثم المصالحة. ” وبنفس اللهجة صرح اتحاد الشغل بالقول بأن: “أي محاولة لطي صفحة الماضي لن تكون إلا داخل مسار الدستور، وعلى قاعدة المساءلة وكشف الحقيقة والمحاسبة ثم المصالحة بعيدا عن المقايضة والمصلحية”. وفي هذا الصدد يرى الكاتب بأن رد الأموال هو أحدى صيغ الاعتراف وكشف صريح للحقيقة بل يعتبر أيضاً محاسبة.
المصالحة الاقتصادية وتجربة الجزائر:
وصلت التقديرات غير الرسمية بالجارة الجزائر لحجم الفساد المالي، وحسب ما نقله عبدالحفيظ سجال بصحيفة نبوست (noonpost) بتاريخ 14/9/2021 م، حوالي 200 مليار دولار. وفي هذا الشأن أقترح السيد عبد العزيز بلعيد رئيس حزب جبهة المستقل أن تكون المصالحة المالية واقتصادية بالإفراج عن القابعين في السجون بسبب جرائم مالية مقابل إرجاع الأموال المسروقة لخزينة الدولة وعلل ذلك بسبب أن الفاسد المالي يتم بأوامر شفوية من سلطات عليا! وفي هذا الإطار تنشر الصحفية إيمان عويمر بالعربية أنديبندنت (independentarabia) بتاريخ 17 فبراير 2021م ما يصرح به السيد بلعيد حيث يدعو: ” إلى التفكير في إمكانية مصالحة اقتصادية مع المسؤولين المسجونين، وفتح نقاش حول النظام بشكل كامل وحوار شامل يستدعي مختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والخبراء، “. في المقابل هناك من يرى عكس ذلك فالسيد الاقتصادي مصطفى بن خمو يقول : ” لا وجود لشيء يمكن تسميته بمصالحة مالية واقتصادية مع مسؤولين تورطوا في الفاسد”.
كندا والمصالحة الاقتصادية:
مصطلح المصالحة الاقتصادية قدمته لجنة فانكوفر الاقتصادية (Vancouver Economic Commission) على موقعها (https://vancouvereconomic.com/economic-reconciliation) والتي عرفت مصطلح المصالحة بأنه يشير: ” إلى عملية رعاية علاقة مستدامة من الاحترام والتفاهم المتبادلين مع الأمم الأولى المحلية ومجتمعات السكان الأصليين الحضريين.” وكذلك وضحت بأن المصالحة الاقتصادية تشير إلى ضرورة “الإنصاف الاقتصادي للظلم التاريخي للشعوب الأصلية. كذلك ذكر مصطلح “إنهاء الاستعمار الاقتصادي”! وهذا ما يفترض أن يتحقق من المصالحة الاقتصادية إنهاء الاحتكار وحرمان أي فرد أو مجموعة من المشاركة في الحركة والتنمية الاقتصادية.
الاستنتاج من تجارب المصالحات الاقتصادية:
ما يمكن استنتاجه من التجارب الثلاثة أعلاه ما يلي:
بالنظر إلى التباين في أوج الإشكاليات المالية التي تحتاج للمصالحة بكندا والجرائر وتونس إلا أن جميعها حصلت على أرض ليبيا. فمع الشعوب الأصلية هناك غياب للتنمية الاقتصادية بالجنوب وعلى جبل نفوسة، كذلك هناك ممن محسوبين على جميع المراحل الثالثة هربوا بأموال ليبية للخارج بدون وجه حق، إضافة إلى العديد من التجاوزات المالية المزعجة. وقانون العدالة الانتقالية رقم (29) لسنة 2013 يحتاج إلى تطوير كما هو الحال مع القانون التونسي.
نشوة انتصار الثورة أو الانتفاضة يشجعها على رفع سقف مطالبها لتتجاوز حدود المعقول والمنطق.
هناك خلط وغياب لإدراك بأن هناك فرق بين مفهوم الإصلاح في العدالة الانتقالية وتفسير المحاسبة بالانتقام. منظمة بحجم الشفافية الدولية دعت البرلمان التونسي لرفض قانون «المصالحة الاقتصادية» وعدم المصادقة عليه بحجة أنه مثير للجد.
المصالحة الاقتصادية تعود بالمصلحة والإصلاح للدولة، وهذا قد لا يتوافق ومصالح المؤسسات الدولية مثل الشفافية الدولية.
اعتراف المذنبين بتجاوزات مالية وإرجاع ما تم نهبه يجنب متاهات المحاكمات القضائية وتكاليفها المالية. فالاعتراف شكلٌ من أشكال العقوبة للمذنب، وإرجاع أموال الشعب لخزانة الدولة سيعود بالنفع على الشعب.
تجنب الشروخ الاجتماعية بإظهار ما أرتكب من جرائم مالية، وخفض لحدة الكراهية التي ستسببها المعاقبات الانتقامية، مما قد يعيق المصالحة.
احتكار النشاطات الاقتصادية لعائلات موالية للنظام يوقعنا فيما حذرت منه مجموعة فاكوفر الاقتصادية الكندية من ضرورة “الإنصاف الاقتصادي” بحيث يصل للأهالي المحرمين من جبل نفوسة وسكان الصحراء وبعض المناطق الشرقية.
ملامح المصالحة الاقتصادية في ليبيا:
صحيح عملت الولايات المتحدة على مساندة الدولة الناشئة بتقديم تبرعات للحبوب بعد ديسمبر 1951 وفي 9 سبتمبر 1954، وقعت ليبيا اتفاقية عسكرية لمدة 20 عامًا مع الولايات المتحدة شملت منشآت عسكرية مختلفة من ضمنها استئجار قاعدة الملاحة “ويلس” الجوية بمبلغ إجمالي قدره 43 مليون دولار. والتي في الأساس بنتها القوات الجوية الإيطالية عام 1923م.
وبموجب الاتفاق تمنح الولايات المتحدة لليبيا مساعدة اقتصادية معينة، بمبالغ متفاوتة، تضاف إليها مساعدة فنية ثنائية في إطار النقطة الرابعة (حوالي 1.5 مليون دولار سنويًا) دون احتساب المشاركة الأمريكية في المساعدة الفنية للأمم المتحدة. وبغض النظر أن العملية كانت انتصارا لليبيا أو أمريكا فبالتأكيد هي مصالح مشتركة بين الطرفين. وتظل مسألة تصديق البرلمان على الاتفاقية المسألة الأهم!.
الاقتصاد مع ولادة ليبيا الحديثة:
كان للفترة ما قبل الاستعمار الإيطالي في ليبيا اهتمام بصقل المهارات الفنية للمهنين المهرة، فقد تأسست في عام 1895 مدرسة الفنون والصنائع، ضمن منظومة تعليم الحكم العثماني التي تخصصت في جميع الصناعات التقليدية والحرف اليدوية، بما في ذلك صيانة الساعات والآلات الموسيقية.
وخلال نفس الفترة بنى العثمانيين معهد هايتي لصالح بنك روما لاستعماله كمطاحن للحبوب، ثم صار معهد متوسط للمحاسبة.
خلال فترة حكم إيتالو بالبو أنشأت 26 قرية زراعية وجلب 20000 مزارع إيطالي للاستيطان. وتم تنشيط حركة البناء والأعمار والصناعات الغذائية مما خلق تنمية اقتصادية. كذلك كان هناك اهتمام بالآثار والحفريات، انحصر في الأثار الرومانية بلبدة وصبراتة، والذي يمكن أن يخدم الحركة السياحية، ولكن كان في الأساس تبرير ودعاية للمشروع الاستعماري.
مع الاستقلال وحكم الملكية استمرت ثقافة التوسع في مجال الزراعة وكذلك صناعات البناء والمقاولات والصناعات الغذائية، وغيرها من النشاطات الزراعية. ونتيجة للظروف الصعبة التي عاشتها ليبيا فقد اضطر الملك لتأجير قاعدة ويليز بطرابلس لأمريكا لأهمية موقعها الاستراتيجي ولما تضطلع له من أدوار تلعبها في المنطقة الرابطة بين أوروبا وأفريقيا والطريق إلى الشرق الأوسط وأسيا ويعكس بريطانيا التي انهت وجودها بقاعدة العدم، واستمرت من حلال حضورها في السياسة الأمريكية.
الجمهورية-الجماهيرية والإخفاقات الاقتصادية:
مع إشكاليات خطاب زوارة في 15 أبريل 1973 والنقاط الخمسة وما فيها من قيود اقتصادية وفوضى إدارية فأن مرحلة الجمهورية ظلت تدفعها عجلة السياسة الاقتصادية بالعهد الملكي وما فائت أن توقفت أمام الزحف الثوري على الأملاك، وشركات المقاولات، والأراضي، والمزارع، والمصانع الخاصة، وتطبيق مقولة: “شركاء لا أجراء” ومقولة: “الأرض ليست ملكاً لأحد” لتعم الفوضى ويسقط الاقتصاد في غياهب الاشتراكية المركزية المقيتة وخاصة بعد تعميم مقولة: “التجارة ظاهرة استغلالية”. وفي هذا الصدد نحتاج فعلاً لمصالحة مع نتائج فوضى التصعيد الشعبي قد أنهت التدرج الوظيفي والتخصصية في الإدارة والاقتصاد. وهنا فعلا مع غرس من المفاهيم الفوضوية التي أخرت الاقتصاد الليبي، وتصحيح هذه الأفكار الهدامة للاقتصاد والتنمية.
تم تنشيط حركة تجارة البشر والهجرة غير الشرعية بشكل ممنهج في ظل نظام الجماهيرية. بل استخدمت هجرة البشر إلى أوروبا بتعليمات من قائد الجماهيرية كأداة ضغط للمساومات السياسية.
الاقتصاد خلال المراحل الانتقالية:
بكل أسف من بعد انتفاضة فبراير 2011 انهار الاقتصاد الليبي وسخرت جميع إمكانياته المالية والاقتصادية للحرب الأهلية التي خسر فيها المنتصر حربياً. فالأموال التي صرفت على جميع المقاتلين، بما فيهم المرتزقة، من خزانة ليبيا. وجميع الذين سقطوا في الحرب من الطرفين شباب ليبيا. وجميع المدنيين الذين اجهزت عليهم نار المدافع والطائرات هم ليبيون. وكذلك جميع الدمار الذي لحق بالمباني وبالبنى التحتية بالمدن الليبية خسارة لليبيا. وعوضاً أن تصرف أموال ليبيا على العمارة، والتنمية الزراعية، والصناعية، والاقتصادية، هدرت على الحروب الأهلية.
بل كانت البيئة السياسية الفوضوية مناسبة لظهور اقتصاد فاسد، بل ومشبع بالفساد بعد انتشار المجموعات المسلحة بمختلف مناطق ليبيا بشكل فوضوي. وتمثل هذا الاقتصاد، في تجارة السلاح، والمخدرات، والبشر، بل راجت عمليات النهب بالاعتمادات وشحن الحاويات الفارغة والمشحونة بلا شيء مفيد، بعد وصول الدولار إلى حوالي 10 دينار،. ووصل تدني الخدمات للحضيض مما سبب في انقطاع الكهرباء، والماء أحياناً، والوقود، فظهر اقتصاد يستغل غياب الكهرباء، والوقود، وحتى دقيق الخبز.
مع توزان الوجود الدولي على أرض ليبيا بدأت تتقلص المجموعات المسلحة، وظهرت في الأفق بوادر الإصلاح بعد أن وضعت الحرب أوزراها، ودعمتها اتفاقية وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020م. ومع نهاية 2022م كانت لمراجعة الحسابات الأمريكية للوجود الروسي في ليبيا نوع من الاستقرار والحرص على التواجد الدبلوماسي، وخاصة ً في المنطقة الغربية وتحديداً العاصمة طرابلس، مما أظهر بوادر حركة اقتصادية تمثلت في البناء والأعمار ورجوع بعض الشركات الأجنبية للعمل واستكمال مشاريع معطلة بمعظم قطاعات الدولة.
مستقبل المصالحة الاقتصادية:
كما وأن تحقيق المصالحة الوطنية يتطلب، وضمن عمليات العدالة الانتقالية، كشف الحقيقة وفحص المؤسسات، فالمصالحة الاقتصادية تحتاج، هي الأخرى، لاعتراف الدولة بتصحيح مسار الاقتصاد الليبي وإجراء بعض الإصلاحات، أو بالأحرى بعض العمليات، التي يمكن تلخيصها في الآتي:
الاعتراف بالانتهاكات الاقتصادية التي سببتها سياسات الدولة الاقتصادية غير المسؤولة في مرحلة الحكومات الانتقالية.
القناعة التامة بأن التحكم الكامل للدولة خلال مرحلة الجماهيرية واحتكارها للنشاطات الاقتصادية، باستثناء منح بعض المرونة للعمل الخاص خلال العقد الأخير من عمرها، قد قيد الحركة الاقتصادية والمنافسة الحقيقة، وعمل على تعتيم تام وتغيب للشفافية.
كان للعهد الملكي رصيد من النشاط الاقتصادي الحر يجب الاستفادة من تجربته وتطويرها، وفتح المجال للاقتصاد الحر، والمراقب والشفاف، وتشجيع الشراكات الاقتصادية بين الدولة والقطاع الخاص، وكذلك المتخصص الأجنبي. وبحيث يكون النشاط الاقتصادي ضمن أُطر قانونية وتشريعات تحمي المواطن، وتضمن سيدة الدولة.
كلمة أخيرة:
الواضح بأن مشروع المصالحة الوطنية سلسلة متصلة من الإجراءات الإصلاحية ومن بينها ما له امتداداته في الشأن الاقتصادي. وما تجارب الدولة الجارة تونس والجزائر وكذلك كندا إلا دليل على ذلك. وليبيا الحديثة بمراحلها الثلاثة المتباينة والتي امتدت على 72 سنة: منها 18 سنة بالعهد الملكي من تشجيع الزراعة والصناعة والعمل الخاص الحر، و42 سنة بحقبة الجمهورية-الجماهيرية حيث احتكرت الدولة الثروة وأسلوب توزيعها وإدارتها واستثمارها، و 12 سنة من عهود المراحل الانتقالية المتعددة، حيث عمت الفوضى والصرف على الحروب الأهلية وراج التلاعب بوقف تصدير النفط، وتجارة الحاويات الفارغة، والسلاح وتهريب النفط والبشر، وحتى السلع الغذائية.
أخيراً ومع استمرار اتفاقية وقف إطلاق النار، واستقرار انتاج النفط وتصديره، واستقرار سعر الصرف الأجنبي بقدر، بدأ يتضاءل التبذير غير المشروع، ليتم توفير الأموال ورصدها لخدمة البنية التحتية وتنشيط عقود مشاريع البناء الضخمة المتأخرة. ومازالت مسيرة التصحيح للاقتصاد الليبي، واستقرار سعر تسلك طريقها نحو غدٍ أفضل.
The post هل تحتاج ليبيا للمصالحة الوطنية؟ appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.