فقدت ليبيا شخصية عسكرية بارزة ومؤثرة، تركت أثرًا لا يُمحى في استقرار المؤسسة العسكرية، المشير محمد الحداد، رحيله لم يكن مجرد حدث مؤسف، بل صدمة للجميع في الساحات العسكرية والسياسية، إذ كان الحداد مثالًا نادرًا للقيادة المهنية التي تُقدّر مصلحة الوطن على الطموحات الشخصية، وتعمل على إدارة المخاطر وخلق بيئة آمنة للحوار بين الأطراف المتصارعة.
وقال أستاذ القانون العام المساعد بالأكاديمية الليبية للدراسات العليا مجدي الشبعاني لشبكة “عين ليبيا”، إن ما يميّز المشير محمد الحداد أنه قدّم نموذجًا نادرًا في البيئة الليبية: عسكري مهني غير مسيّس، لم يُعرف عنه التعويل على منطق الانقلاب أو الاستثمار في الفوضى، ولم يسعَ إلى تحويل الرتبة إلى منصة طموح سياسي؛ فلم يزاحم على رئاسة حكومة أو مجلس رئاسي، ولم يرتبط اسمه بمحاولات “تسمية” أو “محاصصة” أو صناعة نفوذ عبر أقارب أو شبكات مصالح. وأضاف الشبعاني أن هذا الفارق الجوهري—مقارنة ببعض نظرائه شرقًا وغربًا—يجعل خسارته وطنية كبيرة، لأنه كان يمثّل سلوكًا مؤسسيًا يمكن البناء عليه لترسيخ عقيدة عسكرية قريبة من نماذج الجيوش المنضبطة التي تأتمر بالسلطة المدنية ولا تتدخل في السياسة، مثل النموذج التونسي، وحتى تصريحاته الوطنية بقيت—في غالبها—ضمن حدود قراءة الواقع الانتقالي ومتطلباته، لا ضمن مشروع سياسي شخصي.
وأوضح الشبعاني أن دور الحداد خلال السنوات الماضية يمكن توصيفه بأنه دور إدارة مخاطر داخل مشهد انتقالي هش، حيث عمل على تثبيت حد أدنى من الانضباط، ومنع الانزلاق إلى مواجهات واسعة، وحماية مساحات التهدئة التي تسمح للمسار السياسي بالعمل.
وأشار إلى أن مساهماته في الحد من التصعيد العسكري كانت ملموسة، عبر خفض فرص الاحتكاك وتغليب التنسيق والتهدئة على سياسة كسر العظم، مع التنويه إلى أن الحد من التصعيد لا يصنعه فرد وحده، بل يتأثر بتوازنات السلاح وتعدد الفاعلين، ومع ذلك كان أثر قيادته المهنية واضحًا في “منع الانفجار” أكثر من “صناعة الاستقرار الكامل”.
وحول دوره في دعم جهود المصالحة الوطنية، أكد الشبعاني أن المصالحة مسار سياسي-اجتماعي بالأساس، لكن دور المؤسسة العسكرية حاسم في توفير شرطها الأول وهو الأمن، حيث ساهم الحداد في دعم المناخ الذي يقلل التوتر ويمنع تعطيل المصالحة بالقوة.
وأضاف أن مبادراته اتسمت بالمرونة على مستوى المنهج، مثل فتح قنوات، تبريد التوترات، وتقديم التهدئة كحل عملي، لكنها اصطدمت بطبيعة الانقسام وتعدد مراكز القرار.
وفي ما يخص اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، قال الشبعاني إن الحداد دعم عمل اللجنة بصورة عملية ومباشرة، ليس فقط عبر الالتزام بالمسار المؤسسي، بل أيضًا بتوفير الأرضية اللازمة لاجتماعاتها وحماية قنوات التواصل التي تقوم عليها، معتبرًا اللجنة إطارًا لإدارة الترتيبات الأمنية الانتقالية وليس منصة تفاوض ظرفية، ما عزز منطق الدولة والمؤسسة مقابل منطق الغلبة.
وأضاف أن الحداد لعب دورًا واضحًا في تسهيل الحوار بين الطرفين عبر اتصالات مستمرة وتنسيق مباشر، بما أسهم في تخفيف الاحتكاك وبناء حد أدنى من الثقة العسكرية المتبادلة، لكن ضمان تنفيذ الاتفاقيات على الأرض ظل التحدي الأكبر، ومع ذلك نجح في تقليص فجوات التنفيذ ومنع الانهيار المتكرر للتفاهمات.
وأشار الشبعاني إلى أن جهوده في توحيد المؤسسة العسكرية ركزت على تقليل الانقسام وتعزيز التنسيق والانضباط، إدراكًا أن التوحيد الشامل عملية مركبة تتطلب قاعدة دستورية وقانونية ومرجعية سياسية موحدة ونظام قيادة متفق عليه، وأن نجاحه الحقيقي كان في إدارة الانقسام وتضييق هوامشه وتهيئة بيئة مهنية يمكن البناء عليها مستقبلاً.
وأكد الشبعاني أن الحداد كان له أثر ملموس في إعادة دمج وتأهيل القوات المسلحة بالمنطقة الغربية، من خلال الانتقال من منطق “التشكيلات” إلى منطق “الوحدات النظامية”، وإعادة تصنيف القوى ضمن ألوية ذات أرقام ومسميات معروفة، ما عزّز الانضباط وسهّل التنسيق وقلّل من الفوضى، خصوصًا في مناطق التماس، وهو ما انعكس إيجابًا على الاستقرار الأمني النسبي.
وبخصوص التحديات، أوضح الشبعاني أنها تمثلت في تعدد الفاعلين المسلحين وتداخل الأمني بالسياسي وتنازع الشرعيات، إلا أن الحداد تعامل معها بمنهج إدارة التوازنات وتغليب التهدئة كخيار أقل كلفة، والسعي إلى التنظيم المرحلي بدل الصدام المفتوح، إدراكًا بأن أي مواجهة غير محسوبة قد تُعيد إنتاج الفوضى وتنسف ما تحقق من ضبط وانضباط.
وفيما يتعلق بتأثير وفاته، قال الشبعاني لشبكة عين ليبيا إن الحداد قد خلق فراغًا مؤقتًا في قنوات التهدئة والتنسيق، وأن استمرار المسار يتوقف على تثبيت النهج المؤسسي الذي عمل عليه، ودعم اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 وتعزيز الانضباط وسلسلة القيادة، وربط أي إصلاح عسكري بالمسار السياسي والدستوري.
وأضاف الشبعاني أن الحداد كان شخصية محورية في الجهود الأمنية والعسكرية خلال السنوات الماضية، وأسهم بشكل ملموس في تثبيت بعض الهدن وتسهيل الحوار العسكري، مع التأكيد أن حدود تأثيره كانت واضحة نتيجة عوامل بنيوية عميقة في المشهد الليبي، وأن رحيله يمثل اختبارًا حقيقيًا لاستدامة المسار الأمني الذي ساهم فيه.
The post الشبعاني لـ«عين ليبيا»: الحداد مثال للقيادة المهنية التي تحافظ على استقرار المؤسسة العسكرية appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.
