الوهم الميلشياوي: بين التفكيك وكابوس التجذر!

0
19

ركود الزمن السياسي الليبي ليس أمرا يستحق الجدل، فلم تتغير تقريبا الأجندة السياسية، وفحوى الخطاب عموما، عن نفس الشعارات والمطالب منذ سقوط نظام معمر القذافي.

إذ مضت ليبيا تغرق في مشهد سياسي وأمني معقد، لا تحكمه المؤسسات بقدر ما تضبطه شبكات الميليشيات المسلحة وأطرافها الأخطبوطية في عنق الدرلة. لكن الأكثر إثارة للقلق ليس فقط هذا الواقع الهجين.

ومع هذا يستمر التواطؤ في إنتاج خطاب سياسي وإعلامي يُصرّ على تقديم حل وهمي تحت عنوان “تفكيك الميليشيات”، بينما الواقع يؤكد أن هذه الجماعات لم تعد مجرد طارئ أمني بل أصبحت بنية قائمة تُنتج وتُعيد إنتاج نفسها من داخل الدولة، لا على هامشها.

ما يؤكد الوهم ان شعار “التفكيك” مستمر رغم تغير بنية هذه التشكيلات المسلحة. والتطور والتنوع البنيوي الذي حدث لها، ما يفرض تغير مقاربة تصفيتها وآثارها، بما يتناسب مع الواقع، لكن ذلك لم يحدث.

ينضاف لهذا ان مطلب “التفكيك” يصطدم مع تجاهل الجميع بمبدأ “التعريف”. فالتوصيف لهذه الكيانات غير معترف به إجماعيا ولا حتى بالغالبية. يؤكد ذلك ان الخلاف ليس داخليا فحسب بل حتى خارجيا يبدو المفهوم غير مطابق محليا.

وهكذا فتكرار الدعوة المجردة إلى نزع السلاح وإعادة الدمج لم يعد يعكس طموحًا وطنياً بقدر ما يفضح حالة إنكار جماعي تعمّق الأزمة بدلاً من تفكيكها.

تنشغل الحكومات المتعاقبة، والبعثات الدولية، وحتى بعض المبادرات البحثية، في ترديد شعارات نزع السلاح، تتغوّل الميليشيات على الأرض، متغلغلة في الاقتصاد الرسمي، متحكمة في القرار السياسي، وراسمة لحدود النفوذ داخل ما يُفترض أنها “الدولة الليبية”. ألا يشير هذا مبدئيا ان خطا المعالجة فاقم الداء ولم يتنازله بالعلاج ناهيك عن الشفاء.

في الحقيقة، الخطاب لا يُعالج المشكلة بل يتحايل عليها. فهو يقدّم الميليشيات كظاهرة قابلة للتفكيك بمجرد توفر الإرادة السياسية، متجاهلًا حقيقة أن هذه الجماعات لم تعد مجرد كيانات مسلّحة بل باتت ترتدي عباءة الدولة، وتستحوذ على جزء كبير من شرعيتها من خلال الانخراط في مؤسساتها الرسمية.

قادة التشكيلات المسلحة لم يعودوا مجرد أمراء حرب، بل وزراء، ووكلاء، وقادة أجهزة أمنية، ومتحكّمين في القرارات السيادية.

لقد أُنتج وهم التفكيك في لحظة دولية كانت تتوهم إمكانية العودة إلى نموذج الدولة ما قبل 2011، دون إدراك أن الديناميكيات التي أطلقتها الثورة، ثم الحرب، قد ولّدت توازن قوى جديد يتجاوز قدرة المؤسسات التقليدية على استيعابه أو ترويضه. وبمرور الوقت، تحوّل هذا الوهم من مجرّد طرح نظري إلى أداة تُستخدم لتجميل الواقع، وتبرير استمرار نفس البنية المختلّة.

في هذا السياق، تُصبح الدعوات إلى نزع السلاح بلا معنى حين تُطلقها حكومات تعتمد على الميليشيات لضمان بقائها. فكيف يمكن لمن يصعد إلى السلطة من بوابة الجماعات المسلحة، أن يكون جادًا في محاربتها؟

بل كيف يمكن لتلك الميليشيات أن تضعف، وهي تستفيد من اقتصادات ضخمة غير مشروعة، تشمل التهريب والابتزاز والفساد المؤسسي، وتُكافأ بمنحها مناصب رسمية ومساحات نفوذ على حساب القانون؟

وما يزيد من تعقيد المعادلة، هو التواطؤ الدولي المقنّع خلف خطابات القانون وحقوق الإنسان. فالأمم المتحدة تصدر القرارات تلو الأخرى بفرض حظر سلاح، بينما تستمر الدول الأعضاء في تمويل وتسليح الميليشيات عبر وكلائها المحليين.

أما المبادرات الدبلوماسية التي تُرفع تحت شعار الحوار، فغالبًا ما تُفضي إلى ترسيخ مبدأ “تقاسم النفوذ” بدلاً من استعادة سيادة الدولة.

إن هذا الإنكار المتعمّد لجذور الأزمة يُفقد أي عملية سياسية معناها. فكيف يمكن الحديث عن انتخابات نزيهة، والمراكز تحت سلطة ميليشيات؟ وكيف يُبنى جيش موحّد، فيما الولاءات مجزأة على أسس جهوية ومناطقية، وتُدار المؤسسات الأمنية كجزر مستقلة يتحكم فيها زعماء السلاح؟ بل كيف تُبنى دولة، وقادتها لا يملكون سلطة على الأرض، ولا قدرة على مساءلة من يسيطرون فعليًا على مواردها ومؤسساتها؟

في واقع الأمر، لا يمكن تفكيك الميليشيات بخطاب أخلاقي أو قانوني ما لم يُعاد تفكيك البنية التي تمنحها القوة: شبكة المصالح الاقتصادية، الحماية السياسية، وتواطؤ المؤسسات الرسمية.

المطلوب اليوم ليس استكمال وهم الإصلاح، بل الاعتراف أولًا بأننا أمام نموذج هجين من الدولة، تحكمه توازنات ما دون وطنية، تستند إلى منطق الغلبة لا الشرعية، والسطوة لا القانون.

من هنا، فإن أي مسار جاد نحو تفكيك حقيقي لا بد أن يبدأ من الأسفل إلى الأعلى: من تفكيك الاقتصاد غير المشروع، وبناء بدائل معيشية فعلية، وتطوير منظومة عدالة انتقالية تنزع الحصانة عن منتهكي حقوق الإنسان، وتنهي حالة الإفلات من العقاب.

كما لا بد من توافق إقليمي ودولي حقيقي يتجاوز منطق الرعاية بالوكالة، إلى التزام واضح ببناء دولة ذات سيادة، لا مجرد واجهة تتحكم بها مصالح الخارج من خلال سماسرة الداخل.

خلاصة القول، إن أخطر ما في وهم تفكيك الميليشيات، أنه يُستخدم لتجميل استمرارها، ويُستثمر كأداة لإدامة الفوضى، لا لإنهائها. وبين خطاب يرفع شعار الدولة، وواقع يحكمه السلاح، تذوب المسافة بين القانون والتواطؤ، وتبقى ليبيا رهينة التوازن الهش الذي لا يسمح بقيام دولة، ولا يقبل بانهيارها الكامل.

وما لم يُكسر هذا الإنكار، ويُواجه جوهر المعضلة بشجاعة سياسية وعقلانية استراتيجية، فإن كل حديث عن الاستقرار سيظل صدى آخر لصوت الوهم.

The post الوهم الميلشياوي: بين التفكيك وكابوس التجذر! appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.