بعد النعجة دُولّي.. واشنطن تُعيد استنساخ الصدام «البغدادي – الأربيلي» في ليبيا!

0
47

ليبيا.. بين “سريتة” السروال الأمريكاني.. والزواج الكاثوليكي من موسكو!! (الجزء الأول)

لعلكم لازلتم تذكرون – رغم أن ذاكرة أغلبنا تقترب بأداءها من ذاكرة الذباب كلما تعلق الأمر بذكرى محطة من محطات محن الوطن – ذلك اليوم الذي خرج فيه علينا ريتشارد نورلاند الوزير الأمريكي المفوض بمهمة مبعوث بايدن إلى ليبيا، ليُصرح بما يُفترض أنه يمثل قمة الخيانة لقيم بلاده، باعتبارها الأكثر تشدقا بتمسكها بقواعد ونظم الحكم الرشيد، حتى أنها تعتبر نفسها النبية المرسلة لنشر الديمقراطية بين البشر، بل والتي بلغ إيمانها بنبوتها هذه، حد تصديرها لديمقراطيتها بالاجتياحات العسكرية وإحراق الشعوب وإراقة دماءها واحتلالها.

ولقد قال نورلاند بتصريحه ذاك، بلا خجل وبملء فم  كافر حتى بمجرد مقدمة الديمقراطية الغربية، لو افترضنا أنها قد جُمعت بكتاب: بأنه يمكن إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية الليبية ضمن استمرار وجود صراع الحكومتين القائمتين!!؟.

ورغم أن نورلاند هذا، لم يُشر بتصريحه ذاك إلى ترحيبه بوجود المرتزقة والقوات الأجنبية التي تحتل ليبيا أيضا لتؤانس إجراء انتخابات ليبية مُفترضة وتمنحها بركتها هي الأخرى، إلا أن المؤكد أنه لا يرى لا هو ولا بايدن الذي يمثله، أي مانع من إجراء انتخابات تحت حراب المرتزقة، وأسفل نعال قوات الاحتلال الأجنبي وبينها قوات أمريكية، والدليل أنهم كانوا فعلا بصدد إجراء انتخابات في ليبيا بالعام 2021م، لولا أن اقتحمها سيف القذافي وأفسد عليهم إكمالها.

ولقد كان من الطبيعي في ظل يقين كلا منا نحن الليبيون  – وهو ما يتعارض كليا مع أفكار نورلاند هذا – باستحالة إجراء انتخابات في دولة تحت الاحتلال الأجنبي، وتدار ولو من الناحية المالية بحكومتين متعاديتين حد استعداد كلا منهما وعن سابق إصرار وتصور لتزوير كل انتخابات قد تجري بمناطقها شر تزوير، أن نجد أنفسنا ومنذ تاريخ ذلك التصريح المستهتر وحتى اليوم تحت ضغوط دفق من الإسالة التي تطرق رؤوسنا طرقا من نوع: هل كان هذا الأمريكي يحترم القيم التي طالما ادعتها بلاده وهو  يهرطق بهذا الهذيان السياسي!؟ ألم يبدو هذا النورلاند بتصريحه الذي ظهر فيه وهو يقر بإمكانية إجراء انتخابات ضمن توازي حكومي شرير، طاغية أشر، وهو يعلن قبوله لحالة انحطاط سياسي ترفضها حتى أشد الأنظمة استبدادا، فما بالك بملائمتها لدولة أحرقتها واشنطن وأهانت شعبها شر إهانة باسم تصدير الديمقراطية ولأجل منحها حكمة الأوديسا والحكم الرشيد لديارها!؟ أم إن هذا الأمريكي أراد أن يقول لليبيين، بأن بلاده التي تتفهم وتتمسك بالتوازي الحكومي الليبي ستعمل على تخريب أيرانتخابات ليبية حتى لو كافح الليبيين حد نجاحهم بإكراه واشنطن على القبول بإجراءها بيوم معلوم؟.

أم أنه أراد أن يقول لنا بأن ليبيا باقية على وضعها الأليم حتى بحال أجريت فيها انتخابات، طالما أنه حتى كلب بايدن المدلل “كوماندر”، يعلم بأن إجراء انتخابات وطنية عامه فوق تراب يعج بالمرتزقة وقوات الاحتلال الأجنبي، وتتنافس على بيع مصالحه حكومتين متعاديتين ومتنازعتين للشرعية، لن ينتج إلا المزيد من أوحال الغائط الأمريكي الذي يغرق  فيه الليبيين منذ الـ2011 وحتى اليوم، أو بحال شئنا التفصيل، هل أراد هذا النورلاند تبشيرنا بأن إجراء انتخابات بليبيا لن ينتج إلا المزيد من الخداع والهيمنة الأمريكيين اللذين لن يفرزان إلا القيادات الفاسقة والسفيهة والمزيد من هوان سيادة البلاد واستشراء الفساد، ويوميات متواصلة من الذل والدم والدموع!؟.

أم إن نورلاند هذا أراد أن يقول لنا – ويحسب أن هناك من سيصدقه – بأن بلاده عاجزة فعلا على إنهاء أمر الانقسام الحكومي  في البلاد، وهي القادرة على حسمه حقيقة في أقل من الوقت الذي يستغرقه أعظم شيف أمريكي بإعداد (رغيف بيرجر)، خاصة وإن الفردة الثانية من جزمة التوازي الحكومي الراهن، وهي حكومة باش اغا، إنما هي صنيعة ستيفانية – أمريكية في الأصل والأساس؟ ثم من أعطى هذا النورلاند الحق ليقرر نيابة عن الليبيين شكل السلطة التي عليهم إجراء الانتخابات تحت ظلالها، إن كانت حكومة واحدة أم اثنان أم حتى ألف!!؟ ولماذا لم نسمع مثل هذا التدخل العدائي السافر، من السفير الروسي أو الصيني أو الهندي، أو حتى من السفير الجنوب أفريقي باسم وحدة المصير الأفريقي، أو من سفير تونس أو مصر أو الجزائر باسم وحدة العروبة والتاريخ المشترك، أو حتى من السفير المالطي أو الإيطالي باسم الجوار والتأثر بالإقليم المشترك!؟.

ولعل ما يؤكد استهداف واشنطن المتعمد لوحدة واستقرار ليبيا هو انتقالها خلال وقت قصير نسبيا من هذا التصريح التخريبي لسفيرها، إلى ما هو أشد خطرا، وهو فرض ميزانية على ليبيا بينما البلاد ليست نموذجا لدولة نزاع مسلح فقط، بل ودولة نال منها الفشل السياسي حد تدوير وتنازع شؤونها بين حكومتين متعاديتين، ورغم محاولة واشنطن الاستخفاف بالليبيين كعادتها، برد فرض هذه الميزانية إلى حرصها على استقرار ليبيا، إلا أن الحقيقة الراسخة والحاسمة تقول بأنه لا يوجد دافع لدى واشنطن بفرض هذه الميزانية المعجونة بالسم الزعاف، سوى رغبتها الجامحة باستخدامها بتمويل استنفارات عنفية مروعة تخطط لتوجيهها ضد ما تعتبره وجودا روسياً خطرا على مصالحها في ليبيا.

إن الوضع الروسي الجديد في ليبيا والذي زلزل واشنطن زلزالا شديدا، وخاصة عقب نجاح العملية المافيوزية الروسية بطباعة أموالا ليبية تجاوزت بها موسكو موافقة ونفوذ وكيل واشنطن بالمصرف المركزي، وحققت من وراءها تمويلات مهمه لفيلقها في ليبيا الذي تُعده ليكون (قوات أفريكوم الروسية بأفريقيا) ويُتوقع اكتمال حضوره العسكري الاستراتيجي نهاية هذا الصيف، وهو الحضور الذي تتحمل واشنطن وحدها المسؤولية الكاملة عن ابتلاء ليبيا به، لأنه جاء نتيجة تهيئة واشنطن لأفضل الظروف لاستباحة ليبيا عقب تحطيمها للجيش الليبي عسكريا وتورطها بتفكيكه قانونيا، وتحويل ليبيا برمتها إلى دولة فاشلة من الناحيتين السيادية والسياسية، وهو ما لم يجعل ليبيا لقمة سائغه للغزو العسكري الروسي فحسب، بل وللوجود العسكري التركي والإيطالي، بل وكذلك لقوات المعارضات الأفريقية التي لعلها ما تزال تجوب جنوب البلاد وتعيث فيه فسادا حتى ساعتنا هذه.

وعليه فإن رغبة واشنطن بإيذاء الروس ومحاصرتهم بشرق البلاد وتشديد الظروف الصعبة من حولهم بهدف اقتلاعهم من ليبيا بعد أن بلغها يقينا نجاحهم الباهر حتى الآن بترسيخ أقدامهم فيها بصورة باتت تهدد وبشدة الأطماع الأمريكية في ليبيا وأفريقيا، وتضع كل منشآت النيتو والقواعد الأمريكية بكل الجنوب الأوروبي بخطر شديد، ولعل هذا ما أكده “ليم ويسلي” مدير المكتب الأوروبي للشؤون الأمنية والسياسية بوزارة الخارجية الأمريكية، بتصريح له على هامش قمة النيتو التي عقدت بواشنطن قبل أيام، والذي قال فيه ويسلي (بأن حلف النيتو ما يزال يُجري مناقشات عميقة لتنظيم رد قوي عبر عملية عسكرية واسعة ومشتركة ضد ما اسماه بالتهديدات الروسية، التي وصفها بالهجينة)، واتهمها بلعب دور مدمر في ليبيا وأفريقيا بهدف تقويض الأمن فيهما، كما زعم بأن موسكو تعمل على تعزيز نفوذها في أفريقيا عبر ليبيا من خلال فيلقها الذي أنشأته فيها بهدف الاعتناء بتحضير ورعاية ما أسماه بأدوات موسكو العسكرية الهجينة أو غير المتماثلة، حتى  تستطيع تغيير جلدها بتغير الأماكن التي تجتاحها، مدعيا شروع واشنطن بالعمل ضد هذه التهديدات الروسية علي مستويين، يختص أولهما بإعادة توحيد جميع الأطراف في ليبيا، ويختص ثانيهما بالتصدي للمخاطر الروسية التي تتسبب بوقوع اختراقات خطيرة بالنظام الأمني الإقليمي، وإحداث تآكل تدريجي للسلطات المدنية بالشرق الأوسط وأفريقيا.

إن هذا الواقع الروسي الذي وجدت واشنطن نفسها تغرق فيه، هو الذي كان الشعرة التي قصمت ظهر الدبيبة، ودفعت بواشنطن إلى رمي وكيلها بالبنك المركزي إلى أحضان عقيلة، حيث لم يكن أمام واشنطن من خيار عند لحظة خطرة من لحظات تطور الوجود الروسي في ليبيا وانطلاق صعوده باتجاه بناء علاقة تعاون عسكري استراتيجي كبير مع الرجمة، وفي ظل إصرار هذه الأخيرة على الحفاظ على زواجها الكاثوليكي من موسكو، والذي عبرت عنه بوضوح بسماحها بوصول الكثير من “جهاز الفرح” في صورة أسطول بحري عسكري روسي رمزي زار قاعدة طبرق البحرية، وعتاد عسكري روسي متطور وصل فعلا إلى ذات القاعدة، إلى جانب تجهيزات أخرى ذكرتها السفيرة الأمريكية الجديدة في ليبيا جينيفر جافيتو تلميحا بإفادتها أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، وهو ما اعتبرته واشنطن تهديدا حقيقيا يُحدق بمصالحها في ليبيا والشرق الأوسط والقارة السمراء، ولم تجد واشنطن من خطوة تأسيسية أولى لمواجهة هذا الوجود الروسي غير إظهار اهتمامها المفاجئ بعقيلة صالح، عبر توجيه لجام وكيلها ببنك الليبيين المركزي نحو خوض شهر عسل مجهول العواقب مع عروسه الجديدة، وذلك على حساب طليقته الناشز الدبيبة، التي حُرمت حتى من نفقة العدة، وذلك رغم أن الكثير من الشواهد تؤكد استمرار رضا واشنطن على وجود الدبيبة في الحكم وعدم رغبتها بتغييره بوقت قريب، بل ولربما كان من بين أهم أهداف شهر العسل الدائر بين (المستشار والبنكاجي) اليوم، هو إلهاء عقيلة عن ترديد أسطوانة خلع الدبيبة، التي ما انفك يرددها لأجل المال وحده، والتي باتت واشنطن تثق بأن عقيلة قد رماها لأحفاده ليتسلوا (ببغبغاتها)، بعد أن صارت الأموال التي كان عقيلة يحسد الدبيبة عليها تتكدس بين يديه، بل وبعد أن صار عقيلة نفسه وصاحب مفاتيح الخزائن، زوجين على سنة واشنطن ومبعوثها إلى ليبيا.

ولقد بدأت أولى مراسم إعلان الزواج المسيار بين المستشار والبنكاجي، فور ذيوع خبر نجاح العملية المافيوزية الروسية بطباعة أموال ليبية خارج سلطة وكيل واشنطن بالبنك المركزي، وتأكد واشنطن من حصول الفيلق الروسي بليبيا، من وراء هذه العملية، على تمويل استراتيجي بأكثر من 200 مليون دولار، إلى جانب حصوله بواسطة أموال محلية إضافية على مئات الأطنان من المعدات والتجهيزات اللوجستية من السوق المحلية، وهي الأموال التي تدّعي موسكو بأنها جملة ديونها على الرجمة، وأن واشنطن كانت تمنعها من الوصول إليها، بسبب السيطرة الأمريكية المطلقة على المصرف المركزي الليبي، ولم يكن أمام واشنطن من سبيل للرد المؤقت على سخرية الروس منها بانتزاعها لديونها من بين فكيها، سوى إلغاء التداول بورقة الخمسين دينار ورفع كلفة الدولار على موسكو، تحسبا لوجود بقايا أموال لديها أو لإعادتها الكرة بإصدار نقود جديدة، ولئن كان إلغاء التداول بفئة الخمسين دينار لم يكلف واشنطن أكثر من مكالمة هاتفيه لوكيلها بالبنك المركزي، لتصبح قيمة هذه الورقة النقدية فور إغلاق سماعة الهاتف كقيمة أي كيس من الأكياس التي تتطاير حول مقالب القمامة، إلا أن التعجيل بتحقيق حاجة واشنطن لتحقير قيمة الدينار الليبي شكل لها مأزقا بسبب ارتباطه بأحد أهم مصالح واشنطن الاستراتيجية في ليبيا، وهو ما دفعها إلى إجراء عملية دقيقة حتى لا تؤذي مصلحتها الاستراتيجية المتعارضة فنيا مع هدف تحقير الدينار.

فما هي هذه المصلحة الاستراتيجية الأمريكية!؟ وكيف تعارضت فنيا مع هدف التعجيل بتحقير قيمة الدينار الليبي!؟ وما السبيل الذي استطاعت به واشنطن تجاوز هذا المأزق خلال يوم أو بعض يوم!؟.

إن المصلحة الاستراتيجية الأهم لواشنطن في ليبيا والتي عملت عليها عميقا حتى تحققت لها كليا، هي سيطرتها المطلقة على البنك المركزي، ولقد أقامت هذه السيطرة على تكنيك إجبار ليبيا برمتها على إدارة بنكها المركزي بمجلس إدارة ناقص للعقل والدين، أي مجلس لا يتمتع بالنصاب القانوني لمجلس الإدارة، الذي يسمح لمؤسسة وطنية كبرى بهذا الحجم بالتعامل بشرعية وأريحية مع كل السياسات والقضايا النقدية الأساسية للبلاد، ما جعل البنك المركزي يدار تحت هذا الظرف الذي فرضته واشنطن عنوة، بما يمكن تسميته بـ”قانون الطوارئ”، الذي حول بدوره حاكم البنك المركزي داخل عرينه إلى شخص بصلاحيات “كيم جونغ أون” في كوريا الشمالية، ما يعني أن معارضته من أي كان، وبأي شأن كان، وعلى أي نحو كان، تعني الانتحار الوظيفي اللحظي للمعارض مهما كانت أهميته المعرفية أو الوظيفية بالنظام المصرفي المحلي، ولقد استطاعت واشنطن من خلال قانون الطوارئ الذي يدار به البنك بديكتاتورية مطلقة، ونجاحها بتحويل هذا الديكتاتور إلى وكيل حصري لها، نتيجة فضلها ودورها البارزين الحصريين عليه بإبقاءه حاكما للبنك لما يقارب الـ14 عاما، بل والذي ما يزال حبل حكمه على الجرار، بل إن واشنطن لم تسع إلى تعطيل اتفاق بوزنيقة بكل ما أوتيت من قوة، ولم تسلط عليه بعثة الوصاية لتعرقله حتى قتلته غدرا، إلا لأجل منع ظهور محافظ بديل، إضافة إلى تحقيق واشنطن لما هو أهم، وهو حرصها الشديد على أن لا يلتئم مجلس إدارة البنك أبدا ليبقي لها هذا الأخير مزرعة سائبة تأكل منها متى شاءت وكيفما شاءت دون حسيب أو رقيب، بيد أن مأزق انعدام وجود شرعية النصاب القانوني بمجلس إدارة البنك، قد تسبب لواشنطن بحرمانها من الاعتماد على وكيلها البنكاجي، باتخاذ القرار اللازم بتحقير قيمة الدينار لسهولة الطعن بأي قرار سيادي يصدر عنه ضمن النظام المنقوص أو الطارئ الذي يدير به مركز ثروة الليبيين، وهنا لم تجد واشنطن من سبيل أمامها غير اللجوء إلى استخدام وكيل محلي آخر، لتحميله وزر اقتراف هذه الشائنة النقدية، ولقد قادتها الفتلوكة القانونية التي أوصاها بها (طابورها الخامس) إلى الارتماء فورا بأحضان عقيلة، الذي كان ينتظر هذا الاحتضان على أحر من الجمر حتى أنه لاقاه برومانسية ما كان لينافسه عليها ولا حتى الراحل عبد الحليم حافظ بزمان أوج شهرته.

لقد كانت واشنطن تدرك تماما شدة تعطش عقيلة للتقرب من خازندار أموال الليبيين، وشدة رغبته بمنافسة الدبيبة على قلب واشنطن، الذي كان من بين أسبابه أيضا (أي هذا التعطش) الحصول على حماية واشنطن ضد نفوذ وبطش الرجمة، لتضاف هذه الحماية الجديدة إلى حماية القاهرة لعقيلة، التي يظل الاعتماد عليها وحدها محفوف بالمخاطر في ظل التغير الدرامي المستمر بأمزجة وتحالفات ومصالح القادة العرب، ومن هنا جاءت ضربة واشنطن الصاعقة لليبيين على يد عقيلة الغاشمة، بوصول واشنطن فعلا إلى تحقيق هدفها بتحقير قيمة الدينار الليبي أسوأ تحقير، بإجراءات كانت من ناحية قانونيتها أقرب ما تكون إلى تقليب أحشاء حيوان نافق، صدرت وسط غضب شديد وسيل هادر من الرفض والاعتراضات الواسعة من كبار الكوادر المالية والمصرفية، واتهام الكثير من أعضاء مجلس النواب لعقيلة (وربما للمرة الألف) بتعاطيه مع البرلمان كما لو كان “حرملك” يضم جواريه وليس رجالا ونساء جاء بهم الشعب ليكونوا ممثليه بكل كبيرة وصغيرة تخصهم، بل وإن منهم من جاءت به أصواتا لم تبلغ الأصوات التي جاءت بعقيلة عشرها، ولقد بدأت عملية إغواء عقيلة واستمالته للوقوف إلى جانب إبليس، بتنفيذ زيارات أمريكية لإعادة ترطيب الأجواء معه، ليعقب هذه الزيارات مباشرة دفع واشنطن لحاكم البنك المركزي نحو تفويض عقيلة (باعتباره زعيم السلطة التشريعية) والسوبرمان الذي يمكنه الحلول محل كل طاغية يحكمه وضع طارئ يعجز معه على إنجاز واجب من واجباته، وذلك بالرغم من أن إصدار عقيلة لقرار بشأن السياسات النقدية (بحسب أنظمة الحكومات المحترمة) ضمن وجود بنك مركزي ليبي يزيد عمره عن الـ70 عاما، وفي ظل عج ليبيا عجا بأهم الخبراء المصرفيين في الإقليم إن لم يكن في العالم، إنما يُعد عارا كعار الجمع بين الأختين.

بيد أن واشنطن لا يهمها جمع حتى عشر شقيقات على ذمة زوج واحد حين تحتاج مصلحتها إلى هذا الجمع الحرام، فما يهم واشنطن دائما هو تحقيق مصالحها فحسب، ولقد حكمت مصالحها هذه المرة بأن يكون نقل صلاحيات وضع وتوجيه السياسة النقدية لعقيلة أكثر أولوية من إتمام النصاب القانوني لمجلس إدارة البنك المركزي، طالما أن إتمام هذا النصاب يهدد بإضعاف سلطة وكيلها بالبنك المركزي الذي يعد خطا أحمرا بالنسبة لأهم مصلحة استراتيجية لها في ليبيا، وذلك تماما مثلما حكمت مصالحها (كما سنبين لاحقا) بأن يكون إصدار (ميزانية سوداء) لحكومتين متعاديتين، مُقدما، وأهم لديها وأكثر أولوية لمصالحها الاستراتيجية من توحيد السلطة أو الحكومة أولا، ولم يخب ظن واشنطن أبدا بعقيلة، بل لعله مرر هذه المؤامرة النقدية التي ستزيد بصورة مروعة من أعداد المواطنين المنزلقين تحت خط الفقر، والتي جرت تحت التوجيه والرعاية المباشرين للسفير الأمريكي ريتشارد نورلاند، الذي كان يدار بدوره من طرف إريك ماير مساعد وزير الخزانة الأمريكي المكلف بأفريقيا والشرق الأوسط، بأسرع مما توقع هؤلاء جميعا، فإن هي إلا بضع ساعات منذ وصول كتاب البنك المركزي المتضمن لطلب تحقير قيمة الدينار الليبي إلى عقيلة صالح، حتى قام هذا الأخير منفردا بتنفيذ ما طلب منه نصا وفورا وبذات الروح التي كان بونشيه وموبوتو سيسي سيكوا ومن على شاكلتهم ينفذون بها أوامر وإملاءات واشنطن دونما تلكؤ أو إبطاء.

وكان لا بد لواشنطن عقب احتواءها الطارئ لما رأت أنها أخطار ملحة لازمة الأموال الليبية ذات المنشأ الروسي، أن تنتقل إلى استراتيجية أكبر وأهم تساعدها على تخريد المطابع الروسية لجهة إنتاج أوراق البنكنوت الليبية، إلى جانب رغبتها بضرورة تعجيل بعث ما تسميه بالفيلق الأوروبي الليبي وإطلاق أولى حملات تحرشها بالوجود العسكري الروسي في ليبيا، ولعل ما لا يؤكد هذه النوايا  فقط، بل ويصرخ صراخا بعدم وجود أي مصلحة لليبيين بميزانية واشنطن السوداء هذه، بل والتي لن يكون فيها إلا الضرر وكل الضرر لهم، هو جواب السؤال: لماذا لم تتذكر واشنطن حاجة الليبيين إلى ميزانية لتمويل برامجهم الحكومية إلا اليوم!؟ ولماذا تذكرت هذه الحاجة الاستراتيجية لليبيين بعد ما يزيد عن العقد من تدخلها لمنع ظهور قانون ميزانية!؟ حيث فرضت واشنطن على الليبيين منذ نهاية عصر ميزانياتهم الأول الذي امتد منذ يوم الاستقلال وحتى نهاية حكومة زيدان، إدارة تمويلاتهم الحكومة بقاعدة 1/12 المشبوهة التي نشرت الخراب المالي وخلقت نزيفا وهدرا للموارد العامة لم يسبق له مثيلا بتاريخ البلاد، وأعطت الكلمة الفصل للفساد الرجيم بكل قطاع من قطاعات الدولة.

ولعل أشد ما يتصل بسياسة واشنطن المشبوهة بفرض ميزانيتها السوداء على الليبيين اليوم من سخف، هو فرضها السابق بمساعدة بعثة الوصاية على ليبيا لمبدأ العمل بقاعدة 1/12 التمويلية المشبوهة على كل الحكومات التي أعقبت زيدان، وذلك بحجة وجود التوازي الحكومي بين الثني الذي ظل صامدا وثابتا بوكره لسنوات مقابل كل الحكومات الموازية التي رافقت وجوده، بينما تقول الحقيقة الدامغة بأن الليبيين قد حُرموا من أن تكون لهم ميزانية خلال كل تلك السنوات، لأن واشنطن لم تكن مضطرة للمخاطرة بمواجهة عواقب امتلاك الليبيين لميزانية، خاصة وأن كل تلك التي كانت تعدها واشنطن عواقبا لامتلاك الليبيين لميزانية، كانت تشكل منافع خير بالنسبة لليبيين أنفسهم، خاصة وإن الوجود الروسي الذي يعد السبب الرئيس بفرض واشنطن لميزانيتها المشبوهة على الليبيين اليوم، كانت البلاد خالية منه تماما خلال كل تلك السنوات، أي أن واشنطن كانت تُهيمن على البلاد وحدها خلال كل تلك الأعوام وتخطط للاستحواذ المباشر عليها، وهو ما احتاجت معه إلى حرمان الليبيين من إدارة شؤونهم بميزانيات رسمية تحقيقا لنظرية تعظيم الفوضى في البلاد التي تُشكل الشرط الرئيس لتحقيق الإنهاك المجتمعي الضروري جدا لتحقيق الاحتلال الكامل، بيد أن أكثر الأمور سخرية وإثارة للغثيان بشأن تغير مواقف واشنطن من تمتع الليبيين بميزانية مثل كل خلق الله، كان تعامل واشنطن مع الليبيين بازدواجية معايير عكست عمق استهزاءها بنا، حيث أن واشنطن هذه التي قررت أن تفرض علينا اليوم ميزانية ونحن نرزح تحت سيطرة حكومتين متوازيتين، هي ذات الواشنطن التي حرمت ليبيا من امتلاك ميزانية لأكثر من عشر سنوات بذريعة وجود توازي حكومي يصعب معه توزيع الموارد بين حكومتين بصورة عادلة!؟.

وعليه فإن واشنطن لم تجد سببا يلزمها بتحمل العواقب الوخيمة عليها بالسماح لليبيين بحيازة ميزانيات خلال تلك السنوات، ولعل أشد هذه العواقب ضررا لسياسات واشنطن في ليبيا هو أن وجود ميزانيات ليبية بتلك الأعوام المبكرة التي كانت فيها ليبيا ما تزال حديثة عهد بالتوازي الحكومي، كان ينطوي بالنسبة لواشنطن على تهديد حسم مسألة الشرعية لجهة حكومة بعينها، ما كان سيؤدي إلى انهيار الحكومة الموازية واختفاءها ضمنيا، وهو ما يمثل كابوسا حقيقيا لواشنطن، التي كانت تعد ليبيا لإنهاك ما قبل الافتراس، وعليه فلقد كان من الطبيعي أن تتمسك واشنطن بإجبار السلطات الليبية على التمويل الحكومي بقاعدة الـ1/12 التي توافقت تماما مع مصالحها وقتها، لأنها أبقت على تمزق البلاد وتنازع الشرعية فيها، بل ولقد زادت من عمق والتهاب جروحها، إلى جانب إحداثها لهدر الموارد المطلوب لدفع البلاد نحو المديونية الخارجية، إلى جانب الإبقاء على حاكم البنك المركزي الليبي الإمبراطور المالي الأوحد بالبلاد والشخصية المركزية بكل أشكال الإنفاق والصرف الذي كان يقوم على إرادته الفردية الخالصة وبصورة عشوائية يقدرها هو وحده، وهو ما استطاعت واشنطن أن تمرر من خلاله الكثير من مشاريعها الموجهة ضد ليبيا، وهكذا كانت واشنطن قادرة فعلا وبقوة على جعل إملاءاتها تحل محل قانون الميزانية، وعلى التحكم من خلال هذه القدرة بإنجاح وإفشال الحكومات والقطاعات والتحكم بالقادة أنفسهم، وربط أواصر العلاقات وقطعها مع من شاءت، والتحكم بتأجيج العنف والفوضى…. انتظرونا فإن للحديث بقية.

The post بعد النعجة دُولّي.. واشنطن تُعيد استنساخ الصدام «البغدادي – الأربيلي» في ليبيا! appeared first on عين ليبيا