إن ما ترتبَ على أحداث الثورة، يُعد شيئاً استثنائياً، لا يستوعبه الكيان المتهالك للدولة الليبية، منذ تأسيسها قبل أكثر من سبعين عاماً، والتي عانت من غياب البناء السياسي الملائم، لكي تلجَ في نظام سياسي ديمقراطي منظم، وافتقرت إلى الأدوات السياسية المنوط بها تنظيم الأداء السياسي ـ في الحكم والمعارضة ـ وهي الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات وجماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدني، وما يلزمها من حقوق وحريات.
وهذا الواقع بما راكمه من بيئة سياسية واجتماعية فوضوية، يحتاج إلى مشروع لبناء الدولة، وليس إلى مشروع الغنيمة والفساد، الذي يقتنصُ الفرصَ لحكم البلاد، ونهب أموالها، مما خيب الآمالَ في الثورة والديمقراطية والمشاركة الوطنية.
وإن أسوأ ما يُفشلُ مشروع بناء الدولة، هو سرطانُ المال السياسي الفاسد، الذي نراه يتصدرُ ويمولُ كلَ المشاهد، ويُعادُ تدويرُ شخوصه ورموزه، مع التغييب والتهميش المتعمد لكوادر بناء الدولة من النخب الوطنية والتكنوقراط، والخشية من وجودهم ومشاركتهم.
ويتعمدُ المالُ السياسيُ الفاسدُ، السيطرةَ على مفاصل الدولة وعلى القبة التشريعية فيها، لكي يسهلَ عليه شراءُ الأصوات اللازمة، وتنصيبُ رؤساء برتبة موظف، دون أيَ محتوى وطني أو منظومة قيمٍ أو مشروعٍ حقيقيٍ لبناء الدولة.
كما شرع بعضُ أصحاب المال السياسي الفاسد، في امتطاءِ المفاهيم، التي يُعولُ عليها لتحقيق التوافق الوطني بين أبناء وأجزاء الوطن، وسخّروا نشاطهم لإبراز بعض رجال الأعمال كرجال دولة، وهذا أخطرُ ما يستعمله أصحابُ مشروع الغنيمة والفساد.
إن العقلية التجارية ومفهوم الصفقة، هما الأدوات والناتج من أداء أغلب رجال المال السياسي، وهذا لا يستقيمً له أمرٌ مع مشروع بناء الدولة، التي انهارت فيها منظوماتُ القيم ومنظوماتُ الخدمات الحياتية للشعب.
كما أن وصفَ “الوطنية” تجبُ معايرتُه وتقديرُه قبل البناءِ عليه، لأنه تعبيرٌ كبيرٌ ومقدسٌ، ولا ينبغي ابتذالُه، وهو ملكيةٌ شعبيةٌ عامةٌ، يتوجبُ الكتابةُ فيها والعملُ بها والبناءُ عليها، بشكل جامعٍ توافقيٍّ تصالحيٍّ واسعٍ، وبمباركة المالك الطبيعي والشرعي لها، وهو الشعب، من خلال حضور وفعل رموزه وقياداته وتكنوقراطه وشيوخه وشبابه ـ رجالاً ونساءً ـ لتكون المخرجاتُ وطنيةً مقبولةً وقابلةً للحياة.
ونصيحتُنا في الختام، أن مشروعَ بناء الدولة لا يتواءمُ ولا ينمو مع مشاريع الحكم وتصارعِها البغيض. وعليه، فإن الأمرَ يحتاجُ إلى رجالِ دولةٍ، وليس إلى رجالِ أعمالٍ، وكلٌ له شأنُه وفكرُه ومجالُه، ولنا في تجارب الحريري وترامب دروسٌ مستفادة.
كما أنه علينا أن نتجردَ من النفعيةِ والزبائنيةِ، وأن نتحلى بالحق والشجاعة والصدق، ونجلس ـ على طاولةٍ مستديرةٍ ـ لنضعَ الأساسَ المتينَ والمنطقيَ والواقعيَ، لبناء الدولة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً ـ في ميثاقٍ وطنيٍّ جامعٍ ـ وهذا أمرٌ سيكون له حصةٌ طويلةٌ من الوقت والجهد، لكنه سيكونُ هو العملُ والعاملُ الذي نبحثُ عنه، ولا ضيرَ في تصحيح المشهد وتجديد الدماء، وعدم فرض الرموز التي جرّبت الفشلَ ونالت رفضَ الشعب لها.
The post رجال الدولة.. رجال الأعمال appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.