دفاعاً عن السياسة

0
260

يمكننا القول إن الأغلبية العظمى من الجماهير في وطني لا يثقون في السياسيين، وأصبحوا  أكثر تشكيكًا وارتيابًا وخيبة أمل في السياسة، لقد أصبحت السياسة بالنسبة لهم كلمة قذرة أساسها الكذب والخداع والغش والفساد والطمع والجشع، فهل فعلا أن السياسة قذرة؟ أم أن السياسيين هم من جعلها كذلك؟ وكيف يمكن تخليص السياسة من القذارة؟.

في اعتقادي المتواضع، أن السياسة في جوهرها وظيفة إنسانية ضرورية ونظيفة**، ولا يمكن لأي إنسان أن ينجح في حياته إلا باستخدامها، وهي نشاط غريزي وحضاري لأسباب عديدة لعل من أهمها أنها تسمح للفرقاء بالتعايش مع بعضهم البعض دون اللجوء للعنف والقتال.

أولا: الأسباب

قد يسأل سائل فيقول: إذا كانت السياسة في الأصل وظيفة نظيفة، فما الذي جعلها قذرة؟! والحقيقة أن هناك دوافع عديدة تجعل السياسة قذرة، لعل من أهمها:

1. الأدعياء

بمعنى أن “السياسة موجودة في كل شيء، وآفة السياسة الأدعياء”، والمقصود بالأدعياء هو جمع كلمة “دعي”، أي الشخص الذي ينسب الأمور لنفسه كذباً، وبدعي ما ليس له، وهذا يعني أن الأغلبية العظمى ممن يتعاطوا السياسة هم سياسيون هواة تهمهم أنفسهم، فاسدون في سلوكهم، كاذبون في أقوالهم، ولا يفقهوا من السياسة إلا القليل، وينطبق عليهم المثل الانجليزي الذي يقول: (Jack of all trades but master of none)، بمعنى شخص يدعي أنه “يملك المهارات لممارسة كل المهن، ولكنه لا يتقن شيء”.

والحقيقة أنه عندما يسود هؤلاء الأدعياء في المشهد السياسي يتحول الفضاء السياسي إلى مستنقع قذر، ويصبح هدفهم الوحيد هو فرض قواعد لعبتهم لتحقيق غاياتهم الأنانية! بمعنى آخر، أنهم مجرد أدعياء في السياسة، وأنهم على استعداد لاستخدم كل الأدوات والأساليب القذرة لتحقيق ما يريدون! وعندما يكثر هؤلاء في مجتمع ما، تتحول السياسة إلى مستنقع قذّر وتغيب الدولة وتتحول ركائزها ومؤسساتها إلى مجرد أدوات لشرعنة أعمالهم وسلوكياتهم.

2. المال

يقول المثل الأمريكي “المال هو حليب الأم للسياسة” وينسب هذه المثل إلى السياسي جيسي “بق دادي” أونروه، رئيس الحزب الديمقراطي في ولاية كاليفورنيا في الستينيات القرن الماضي، ويعني بذلك أن المال بالنسبة للسياسة هو كحليب الأم بالنسبة للمولود الجديد، هذا يعني أنه لابد من الحصول على المال بكل الطرق، وعليه فإن الذي يجعل السياسة لعبة قذرة هو أن شريحة كبيرة من السياسيين على استعداد لاستخدام أموالهم (وأموال غيرهم) دون ضوابط ولا قيود لتحقيق مصالحهم مما يجعل الفضاء السياسي مجرد مستنقع قذر.

3. اللامبالاة

أما الدافع الثالث الذي يجعل السياسة لعبة قذرة هو عدم مبالاة النخب والأغلبية الساحقة من الجماهير بما يقوم به السياسيين! بمعنى أن الأغلبية العظمى من المواطنين ترفض المشاركة في العملية السياسة اعتقاداً منها أنها لعبة قذرة يجب تجنبها والابتعاد عنها، مما ينتج عنه إتاحة الفرصة للفاسدين والمُفلسين والفاشلين للتفرد بالعملية السياسية والسيطرة عليها.

4. الشيطنة

من الدوافع التي تجعل السياسة لعبة قذرة أيضا هو السماح بالحملات الإعلامية السلبية وشيطنة الخصوم دون ضوابط ولا حدود ولا عقاب، فمن المعروف أن المعلومة السلبية اسرع انتشارا، وتُعطى وزناً واهتماماً أكثر عند الجماهير من المعلومة الإيجابية، وعليه إذا أردنا تنظيف السياسة من القذارة، فلابد من محاربة الحملات السلبية، ورفض محاولة الشيطنة، والعمل على معاقبة مستخدميها قانونياً حتي لا تتحول السياسة إلى مستنقع قذر.

ثانياً: الحوكمة

في اعتقادي المتواضع، إذا أردنا تنظيف السياسة من القذارة، أو من أي ممارسات سلبية أخرى، فلابد من ممارسة ما يُعرف بالحوكمة الرشيدة لمؤسسات الدولة، والمقصود بالحوكمة الرشيدة هنا هي الأطر والقواعد والممارسات التي تضمن من خلالها مؤسسات الدولة تطبيق القوانين والقرارات، وتحقيق النزاهة والشفافية والرقابة والمحاسبة والمساءلة في علاقاتها مع بعضها البعض ومع المواطنين، ولكي يتحقق ذلك بنجاح لابد من ممارسة – على الأقل – المبادئ الآتية:

1. القانونية

بمعنى لكي تصبح السياسة نظيفة ومُفيدة لابد من تطبيق قواعد وإجراءات قانونية واضحة، وأن تتضمن الخطط والأهداف، وأن تسعى الدولة لتطبيقها على الجميع بعدالة ودون تمييز.

2. النزاهة

بمعنى من الضروري مطالبة المسؤولين التحلي بالصدق والأمانة والالتزام بأخلاقيات العمل لنجاح مهامهم ومؤسساتهم، ومعاقبة كل من يخالف ذلك.

3. الشفافية

بمعنى ضرورة عدم وجود ضبابية أو تعتيم في قواعد العمل، وضرورة ضمان وصول المعلومات بحرية وسهولة وبطرق منفتحة وواضحة، من أجل زيادة الثقة بين المواطنين والمسؤولين، وتقوية المهارات القيادية، وجعل بيئة عمل أكثر إنتاجية، وتحسين قدرة المسؤولين على حل الإشكاليات ومواجهة التحديات واتخاذ القرارات المطلوبة.

4. الرقابة

تعني الإشراف ومراجعة مؤسسات وبرامج الدولة والتأكد من تنفيذ سياساتها على الوجه المطلوب، وأنها تسير في الاتجاه الصحيح ووفقًا للميزانية المحددة لها، بمعنى آخر، أن غياب الرقابة يعني ببساطة سوء الإدارة، وإساءة استخدام الموارد، والجهل بما يدور في مؤسسات الدولة.

5. المحاسبة

تعني عملية جمع وتصنيف وتسجيل المعاملات المالية المتعلقة بمؤسسات الدولة، وذلك لغرض معرفة نسبة أداء المؤسسات والتدفقات النقدية لأعمال الدولة، واستخدام المعلومات للوصول إلى القرارات المناسبة حول كيفية إدارة أعمالها بنجاح.

6. المساءلة

هي عملية تتم بعد إنجاز عمل ما، يتحمل فيها المسؤول نتائج أعماله واستعداده للمحاسبة عليها، ومن أهدافها، عدم إفلات المسؤول من الحساب، والتخلص من الوقت والجهد الذي يبذل في الأنشطة غير المُنتجة أو المناسبة، ومن جهة أخرى، زيادة مهارات العاملين وثقتهم بأنفسهم.

الخلاصة

في الختام، يمكن القول، عندما يحكم القذرون تصبح السياسة قذرة، ويتحول الفضاء السياسي إلى مستنقع وَسَخ تغيب دولة القانون، وينتقل المجتمع إلى مرحلة ما قبل الدولة، ولكن الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع هي أن السياسة، في الأصل، كالماء لا لون لها، وتتلون بلون الأناء التي توجد فيه، فإذا كان الإناء أحمراً ستكون حمراء، وإذا كان الإناء أسوداً ستكون سوداء، وإذا كان الإناء أبيضاً ستكون بيضاء، ومن جانب آخر، إذا كان الإناء قذراً ستكون قذرة، وإذا كان الإناء نظيفاً ستكون نظيفة.

من هذا يمكن القول إن وجود المناخ السياسي المُلوث والقذر، لا يعني بأي حال من الأحوال أن السياسة قذرة، وإنما كل ما تعنيه أن السياسيين وأدواتهم القذرة هي ما جعلها كذلك، وعليه على كل الخيّرين أن يدركوا هذه الحقيقة، وأن يعوا بأن السياسة وظيفة إنسانية ضرورية، لا يمكن لأي إنسان أن ينجح في حياته إلا باستخدامها، فبالسياسة يتم توزيع القيم في الدولة، وفوق كل ذلك هي واجب إنساني وأخلافي للتخلص من كل القذرين وأدواتهم… فهل آن الأوان للخيرين في وطني أن يعوا هذا الدرس وأن يتعاونوا للممارسة السياسة النظيفة؟!… أنا اعتقد ذلك، وأدعو الله أن يتحقق ذلك قريباً.

أخيرا يا أحباب، لا تنسوا أن هذا مجرد رأي،

فمن أتى برأي أحسن منه قبلناه،

ومن أتى برأي يختلف عنه احترمناه.

والله المســـتعـان

===============================

** لمعرفة ما اقصده بالسياسة النظيفة، راجع مقالي بعنوان: “السياسي الصالح” في موقع بوابة الوسط، 31 مايو 2021.

http://alwasat.ly/news/opinions/322046?author=1

The post دفاعاً عن السياسة appeared first on عين ليبيا آخر أخبار ليبيا.